السبت، 18 أكتوبر 2008

سيّدي المجتمع...

سيّدي المجتمع...
أراك تحمل جميع تلك الشعارات المدوّية وتنادي بالحرّيّة والعدالة والتضامن.
أراك تخطب على المنصّات وتتهافت على الصلاة وتلبس أفخم أنواع الأقمشة وتتناول أشهى المأكولات.
أرى جيوبك وقد امتلأت أوراقاً ومعادن ماديّة وعينيك أبداً فارغة تطلب المزيد.
أراك ولا أصفّق... ولكن ما هو مجرّد صوت واحد, صدى لتصفيق جديد وقد أجدت بقدرة الحاجة و"التعتير" تخدير وترويض آلاف الأيادي...
سيّدي المجتمع...
الأدب لك طبعاً ولك التبجيل والاحترام والمديح لقدراتك المعتّقة لوضع حد لهذا الخراب.
لك أيضاً أرواح أمّتنا والجثث الملقاة باسم الوطن ولكن ليس فداه.
لك الأغنية الّتي تقول "الماضي لك, وبكرا لك وبعدو لك!"
لك عويل الأمّهات...لك بطونٌ فارغة, البعض بسبب "الريجيم" والبعض الآخر بسبب "الحرمان"!
لك ضمائر لا تنهض من نومها فقد وجدت لذّة في ذاك السبات.
لك الأمر والنهي فارحمنا أيّها السّفاح!
سيّدي المجتمع...
أصحو كلّ يوم على أمل أن تحدث أعجوبة, أن يصفع أنين مواطنيك وجهك فتستفيق وتتغيّر. ولكن لا...
أرى جبروتك يزداد يوماً بعد يوم, وأحياناً لا أملك سوى أن أبكي وأبكي وأبكي, وأعود لأتمرّد وأثور...
ولكن, ما همّك أنت من انفعالاتي؟ لن ينزل يوماً من في القصر العالي ليتأملّ بصدق ماذا يدور في الأقبية.
سيّدي المجتمع...
الضجر من طقوسك يعميني, كذلك الشعور بالوحشة والمنفى داخل وطني! وطني الّذي صادرته فكان لك أبناؤه سجناء وكان هو تجارة تمارسها بحق بلدي الأسير.
الغيظ يفتك بشراييني والصمت يتآكل أحشائي! نظرات أطفالك توجعني فأيّ غدٍ ينتظرهم؟ أيّ مستقبل قد نرسم في ظلّ هكذا موازين؟
سيّدي المجتمع...
أما أن لزمن المخاض أن ينتهي؟ آه كم نتوق لزمن الولادة!
أما آن للأقنعة أن تسقط؟
إنزل ولو لمرّة من عليائك لتتفرّج على الحطام بدل أن تدوسه.
أنت تمارس علينا السادية ونحن نمارس المازوشية على أنفسنا! وفي الإثنين يا سيّدي عقم, عقم لن يخوّلنا أبداً على الإنجاب.
سيّدي المجتمع...
نحن لسنا من النوع الّذي يهوى السقوط... ولن نستطيع إدمانك... ولا نستطيع أن نقول سوى "لا" ولا ولا...





الجمعة، 17 أكتوبر 2008

على أنغام الذاكرة المبتورة


أخرجت من جيبها محفظة ممزّقة وأخذت تحصي النقود المتبقية لديها. راحت تفكّر وتحسب إن كان باستطاعتها تدليل نفسها بشراء وجبة دسمة كتلك الّتي تراها في الإعلانات على التلفاز. باءت مهاراتها في المحاسبة بالفشل, فما زال عليها أن تدفع للبقّال حسابه وإيجار ثلاثة أشهر لصاحبة المنزل الغاضبة, عدا عن فواتير الكهرباء والمياه الّتي يهدّدون بقطعها عن شقّتها. كما أنّها تحتاج لبطانية سميكة فالشتاء على الأبواب والبرد بدأ يلسع جسدها تحت ذاك المعطف "المهلهل" والحذاء الممزّق. حدّثت نفسها قائلة "تبهدلتي كتير يا منى!". لمعت عينيها وهي تنظر إلى ذاك المطعم الفخم ورائحة الأكل الشهي تخترق حواسها "يلاّ وإسّا حتتبهدلي أكتر", إسترسلت تحدّث نفسها. لم تعد تشعر لا بيديها ولا قدميها, اقتادها جسدها صوب تلك الرائحة الدافئة اللّذيذة لتنفق آخر ما تملك من نقود على ماعدتها الفارغة منذ مدّة سوى من فتات خبز وزيتون, هذا إذا ما استطاعت الحصول على الزيتون. أخفت الكيس الّذي حوى طعامها تحت معطفها خوفاً من أعين أهل الحيّ الّذين ينتظرون أن توفيهم ديونها المتراكمة. أخرجت المفتاح ودخلت شقّتها كاللّصة. أسندت ظهرها على الباب وتنهّدت بارتياح. فتحت كنزها الدفين وأخذت تلتهم تلك الوجبة بيديها وفمها وحواسها كافّة بشراهة ونهم وجوع. أنهت طعامها. تمدّدت في سريرها وبدأت تتحسّس بطنها المنتفخ برضى وابتسامات وسرور. أخرجت محفظتها مجدّداً. بدأت تقلّبها ثم ألقتها جانباً بعصبية. لم تود إفساد شعورها بالشبع بالقلق المضني. لا, ليس اللّيلة فروحها غير قادرة على الاحتمال. اللّيلة, لا تودّ التفكير بالإيجار المتراكم ولا الألم المقبل. لا تودّ تحميل نفسها مسؤولية فساد الأمّة العربيّة. من يصدّق أنّها تفعل ذلك أحياناً! إكتفت! فقدت الرغبة بإنقاذ البشرية. سئمت الشعور بالذنب وتحميل ذاتها وزر خطايا المجتمع فمن يفكّر فيها وهي ملقاة بين أحضان الجوع والبرد وعلى شفير الإنهيار.على الأقلّ, اللّيلة لن تنام جائعة! هذا سبب كافي حالياً للاحتفال. داعبت وجهها محاولة إقناع نفسها أن تطرد الهواجس "أكتر شي بنتحر وخلص!". هي ساقطة لا محالة, لن يضيرها أن تتأمّل بحدوث معجزة وتسكّن روحها بالألحان الموسيقية والغناء. الغناء! ليالي أمضتها تصدح وتغنّي في كاباريهات الحمرا في بيروت وسط إعجاب ما هبّ ودبّ من المصفّقين والإطراءات والنقود المنهمرة على جسدها المتمايل على الأنغام المدويّة .ولكن, آه... عجزت أن تهزّ جسدها لأكثر من دقائق معدودة. اخترقت ذاكرتها صورة شرخ من طفولتها, رائحة الرجل الّذي كان يدخل غرفتها خلسةً ليلاً وهي طفلة لم تبلغ بعد عامها العاشر, يدخل ليطلب منها أو يكرهها على القيام بأمور مشينة في غياب والدها المرمي في السجن ووالدتها المكسورة الجناح الّتي حكم عليها البؤس أن تمضي ليالي خارجاً بحكم عملها كممرّضة, فتقرّر ترك ولديها عند عمّتهما. ذاك الرجل كان زوج عمّتها الأنيق, ذو المكانة الإجتماعية المحترمة والمرموقة, والأخلاق السفيهة. استفاقت من تلك الصورة وكلّ ما رافقها من مأساة, وشعور بالذنب, وعقم نفسي, وتراسبات أخلاقية, وندوب حفرت على روحها العليلة لتواصل الرقص... الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة والوالدة الّتي توفيت على فراش المرض, والوالد الّذي تعفّن في السجن لأنّه سرق القليل من المال من ربّ العمل ليلة العيد. سرق لأنّه لم يهن عليه نظرات الحرمان في أعين أفراد عائلته ومات سجيناً في قهره عليهم. ولكن لا... اللّيلة لا! لا تودّ أن تحمل عذاب والدها المقهور ولا والدتها المناضلة, ولا ذاك الرجل الّذي اغتال جسدها. اللّيلة تودّ الرقص, الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة. الذاكرة الّتي ترفض تحريرها من أصداء كاباريهات الحمرا ونجوميّتها الّتي هوت بين أحضان الرجل الّذي وعدها أن ينتشلها من القذارة, الّذي أخبرها كم يكره الظلم وطلب منها أن تؤمن بعدالة الحياة, وبأنّ الأحزان والمواجع الفائتة قد مضت والآتي أعذب وأحلى أو كما يقال "أعظم". الرجل الّذي أكّد كم أحبّها فلم ترفض أن تقدّم له كلّ ما تملك من عاطفة ومشاعر... وممتلكات... لم ترفض أن تخلع ذاك السوار الذهبيّ الّذي كان آخر ما احتفظت به في معصمها, عندما تحسّر أمامها وراح يشكو لها غدر النصّابين والاستغلاليّين. نظرت إلى معصمها الفارغ من كلّ شيئ سوى حماقتها ولكن لا! ضحكت... اللّيلة تودّ الرقص على أنغام قهقهة صديقتها الوحيدة المقرّبة الّتي ظبطتها بين أحضان حبيبها وبيدها يتلألئ سوارها اليتيم. تلك الصديقة الحقيرة, المصطنعة, المدّعية الّتي صدحت بصوتها على مسرح نجوميّتها الخائبة, المسنّة المستبدلة بوجوه جديدة دائماً. تذكّرت صراخها في الكاباريه والحرّاس يرمونها خارجاً, هي الّتي لطالما أجادت ان تبدو كما يجب, شديدة الثقة بالنفس ترمى خارجاً رمية الكلاب. صمتت الموسيقى, يبدو انّهم قطعوا عنها التيار الكهربائي. فحتّى جسدها المترهل الوحيد لا يحق له الترنم على أنغام الذاكرة المبتورة. عاودت التمدّد في السرير, عاودت النظر إلى بطنها المنتفخ. اللّيلة, تودّ أن تشعر أنّها ليست هي المسؤولة عن فساد الأمّة العربية . مالها ومال الأمم والشعوب؟! جلّ ما تريد هو أن توفي ديونها للحصول على علبة سجائر مجدّداً. اللّيلة, تريد أن تضيف صورة وجبة شهية على أجزاء الذاكرة المركّبة, وجبة لن تنسى طعمها مطوّلاً...

الأحد، 12 أكتوبر 2008

جنازتي


استيقظت اليوم متأخّرة على غير عادتي... نهضت من سريري بسرعة أنادي أمّي, أسألها لمَ لم توقظني؟ لا أحد يجاوب في هذا المنزل الأحمق! هرعت إلى غرفة الجلوس فإذ بها مكتظّة بأشخاص لا أعرف معظمهم. بكاء, نواح وعويل وأجساد متّشحة بالسواد! أصبت بإحباط... لا بدّ أنّ أحدهم قد مات... "ماذا هناك؟ ردّي يا أمّي! من مات؟"
لا أحد يكلّمني كأنّي غير مرئية, لا أحد ينظر إلي... صرخت بغضب, بهلع "ماذا هناك؟"
لا شيء يرتدّ إليّ سوى صوتي... الجميع غارق في الدموع! دأبت أهزّ كلّ الموجودين كأنّني ألامس الهواء. فقدت إحساسي بيدي, ما بالهم!
تناولت واحدة من تلك النعاوي أتأمّلها بهدوء: انتقلت إلى رحمة اللّه تعالى المرحومة.... لا! لا يعقل! ما تلا كلمة المرحومة كان اسمي! اكتشفت أنّ المنية وافتني فجر اليوم ولكن لا بدّ من وجود خطأ في مكان ما فأنا لا اذكر أنّي متّ كما أشعر أنّي حيّة. لا بدّ من خطأ ما!!!
عدت أصرخ, أرتعش, أكاد أجنّ... أخبر أمّي أنّي ما زلت على قيد الحياة! وهي تضرب نفسها. أحاول أن أهدّأ روع أختي الّتي تكاد تنهار وتركض مسرعة إلى غرفتها لحظة إعلانهم عن إحضار جثماني... تنهدت بارتياح, الآن يحضرون الجثمان فيتبين أنّها ليست أنا من توفيت, لا بدّ أنّها أخرى تشبهني أو تحمل نفس اسمي! أدخلوا النعش, وإذ بها فعلاً أنا. انبطحت والدتس فوقه ترثيني, لم أعد أقوى على الاحتمال. نهضت لأتاكّد من الجثة وانهمرت دموعي على وجنتي... كسرت إناءً زجاجياً كان على الطاولة فتبعثر قطعاً صغيرة أمامي من دون أيّة ردة فعل لأحد. الناس يدوسون تلك القطع دون أي إحساس أو شعور.
دخلت إحدى قريباتي بعويلها المفجع وبدأت تخبر قصّة خرافية مفادها أنّها دعتني للغداء في منزلها البارحة "كنت عاملتلا الورق عنب يلي بتحبو!" لا يعقل! هذه السيدة بالذات دجالة فأنا لم اكن على وفاق معها وأنا لا أطيق "الورق عنب". أهزّ أمّي وأقول لها ألاّ تصدّق...ويتّفق الجميع أنّ الورق عنب كان طعامي المفضّل!!! أخدش نفسي, أشدّ شعري, أنا حيّة! يا ربي, ماذا يحدث؟! شخص تلو الآخر يروون حكاياتاهم عنّي, عن علاقاتهم المقرّبة منّي وأنا أنظر بدهشة وأرسم علامات تعجّب... نسيت موتي وعويله وأردت إخراس تلك الأصوات. الكلّ يؤكد أنّه آخر من رآني وأنا بالفعل أمضيت البارحة أعمل للساعة متأحّرة ولم أرَ أحداً. كيف أعلمهم أنّي حيّة؟
لمّا لم يعد بالأمر حيلة وبلغت حدّ اليأس, جلست على إحدى الكراسي في جنازتي وبصراحة مطلقة, شعرت بالغرابة لاستمتاعي بها! كنت محطّ اهتمتا والكل يريد الجلوس في الصفّ الأمامي من أجلي. ضحكت لسماع الأخبار الملفّقة عنّي, ضحكت لسماع أشخاص لم يحبّوني يوماً يتحدّثون عن كم كنت رائعة... لم أتسلّى على هذا النحو من قبل. العثرة الوحيدة كانت عدم مقدرتي على المشاركة!

السبت، 11 أكتوبر 2008

نحن والبحر...



البحر يحوي هموم الكثير من الناس الّذين سئموا محاكاة الحجارة فلجؤوا إليه... نجلس على الشاطئ, نداعب الرمل, نتعرّق تحت الشمس ثمّ تعود لنغتسل به. نشكو له ليلاً عن أحباء هجرونا, وظروف حكمت علينا... نبكي ضعفاء جداً, ولكن لا نخاف أن يستغلّ ضعفنا الّذي نستّره بأقنعة حديدية خوفاً من المزيد من الجراح. فالبحر يحتوي, يبتلع كلّ تلك الكلمات الّتي مزّقت أعماقنا... البحر يشعرنا أنّه يوصل رسائل الشوق والأمل إلى من تخجل أمامهم أن تتحرّر مشاعرنا... ولكن, لحظة نغمض أعيننا ونقرّر رمي أنفسنا بين ذراعيه, يصيبنا البلل ليوقظنا وتتّقد قدرتنا على العوم لنتذكّر أنّ البحر في النهاية صديق جيّد للاستماع ولكنّه رغم براعته, وفقاً لقوانين الطبيعة, يبقى عاجزاً اذا ما غصنا إلى حضنه أن يغمرنا, أن يقتل الشعور الموحش بالوحدة فهو بكل بساطة لا يستطيع التحوّل إلى إنسان.

تأشيرة دخول للجنّة

أخرجت من جيبه تأشيرة دخول للجنّة, بطاقة دفعت ثمنها من عمرها وذاتها, ثروات من هواجس ولعنات مارست على روحها قانون الحجر والموت البطيء. ضربته هي فصدّقت بختم غضبها تأشيرته للدخول, شرّعتها بثبات لتبات أكثر من صالحة. وقّعت له في إحدى لحظات جنونها وانفعالاتها الغير مدروسة. ركض ليثبّت التهمة عليها, شروع بالقتل المتعمّد. لقد أجاد قتلها مراراً دون ترك أيّ أثر خلفه فهو متمرّس... أمّا هي فمبتدئة هوت من أولى جرائمها.
قرّرت مجموعتين من الملائك والشياطين التداول بالأمر فهرع يتضرّع إلى الملائكة ويخربش على اللّوحة الّتي رسمها في مخيّلته وينعت الصورة بأبشع الصفات غافلاً عن أنّه كان هو الرسّام! لم يعر أيّة أهمية للشياطين فهم في النهاية يعجزون عن قيادته لوجهته المحدّدة والمدروسة ومصيرهم الجحيم. لو كان للجنان تذاكر مرور تباع في مكاتب السفريات, لكان أوّل من اشترى ولكن نحن من نصنع جناننا ونحن من نحدّد جحيمنا. فإن كانت هي جسرك للعبور للضفة الأخرى, إن كانت هي حجر الجحيم الّذي ستتعثّر به خلال طريقك الخائب, إن كان عليك أن تدوسها لتخبر ربّك أنّك مواظب على الصلاة, وإن اعتبرت أنّ عبادتها لربّها تمارس من خلالك, فهذا يعني أنّك نوع من الأنبياء النادري الوجود! فهنيئاً لمن يدعون أنفسهم رسل المحبة والخير جنّة يتدافعون لدخولها ويقذفون بالبشر في سائر الجهات ليكونوا السبّاقين في حجز المقاعد الأمامية لما يحسبون من نعيم...

الجمعة، 10 أكتوبر 2008

بالأمس كنت كلمة


بالأمس كنت كلمة
ثائرة, مجنونة, متهوّرة
بالأمس كنت كلمة
منفية...
من البرد غير مدثّرة...
بالأمس كنت حرفين
بين الشفاه موقّرة
وبين كل نفس ونفس تتنشّقين
ألف غصّة غير محرّرة...
كل يومٍ يدعو الغد
والغد يدعو ما بعد غد
ودواليك سلسلة جرائمه المتكرّرة...
استكيني لقدرك يا حوّاء
واتركيها عالقة في الحنجرة
أم تحرّري من كلّ أدوية الالتهابات
لتقولي كلمة "لا" يا امرأة
لن يتضاءل ألمك
ولن ينصفكِ أحد فيما يرى
ولكن تبقى تلك الأحرف
أعذب من أن تتواري تحت الثرى...
لو أدمنتي جميع المسكّنات
وقلتي أنا مسيّرة
لن يرحم يوماً البائع
بضائع ممّا اشترى
سيستّفها...
يكدّسها...
ولن يعتقها من "البهورة"
ولكنّ برادات الجثث
الملقية في صقيع المنطقة
تليق بها تسمية واحدة لا غير
تسمية واحدة هي مقبرة...
وما دمتِ أنتِ تحيين
لتعلّمي أولادك الابتعاد
عن أوراق اليانصيب المزوّرة
كوني لهم مثال
وليس مجرّد بطلة
لإحدى القصص المصوّرة
فإذا ما دعت الحاجة
قوليها ولا تتردّدي
لن تستطيعي الإثمار
وسط صحراء مقفرة
قوليها دون أن تخافي
قولي لا يا امرأة
وإن أدانوكي, لا تأبهي
سيحين لك الوقت
من كان ليصدق
أنّ الأرض فعلاً "مدوّرة"

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

مصادرة الأحلام



قالوا إنّ الأزهار لا تغنّي ولا ترقص على لحن الناي الحقيقي الّذي يصدح حيثما كان.
قال لكِ حدائقي الموسيقية الّتي يقولون لها اصمتي فتأبى الغياب.
قالوا إنّ الظلمة تحدّت شروق الشمس وحكمت عليها بالإعدام.
قال لكِ الحب الّذي يبقى حيث لا تتراءى معظم الأشياء. لكِ بريق في عينيّ حين تنطفئ جميع المحاولات.
قالوا يستحيل أن تنبت المشاعر في تربة زرعنا فيها شتّى الأشواك.
ابتسم وقال إنّ الأرض الخصبة محفور في داخلها طيّات من أشواق وخواطر شعورية يستحيل عليكم اقتلاعها ولو حاصرتموها بأسلاك.
انقضّوا على حفنة رسائل في خزانته ودمّروها تحت المقصلة في ساحة الشهداء. فحتّى الكلمات انتفضت وقالت ما دوّن عنّي بالأقلام حروف لا يفهمها السفهاء.
خلد الى فراشه ساكناً, خائباً, فربتّت على كتفه وقالت: "لا تحزن يا ولدي, لا أحد يستطيع مصادرة الأحلام..."

تائهٌ في وطنٍِِِ لا موطِنَ له...


عرفتُ نفسي حلماً يطفو في زمنٍِ عميقٍ وبعيد, كالضباب يقنّع ذاكرتي.
صحوت وأنا أسير تائهاً أتمايل بأثوابي الرثّة, أضرب على أوتار عالمٍ لست أدركه, وأترنٌم بلحنٍ منحوتٍ في كياني ولكن لا كلمات له.
سألت جسدي أِذا ما كانت حواسه تتعرّف على بصمات هذا الكون, وناشدت قلبي أن يخبرني عن نسيمٍ عليلٍ يلامس أضلعي. أمّا خوفي, فقاربته علّه يدٌّني على أسرارٍ بحت بها له.

لم أفهم لِمَ هذه الكائنات تنظر أِليّ وتضحك. ما بالها تتهامس؟! ولكنّي شعرت باختلافي, تائهٌ في وطنٍِِِ لا موطِنَ له...
خاطبتهم فهربوا منّي! ذعروا!
غريبٌ لا أذكر نفسي يوماً مخيفاً...
حاولت مجدداً واذ بهم يبتعدون...
ومنذئذٍ أجلس على قارعة هذا الرصيف المظلم, مختبئاً عند زاوية الشارع. ولكنّي دائماً أسأل من أنا, عسى يوماً من الأيّام أحد الأصوات يجيب...

كي لا تقيّمنا الخطيئة



لا أعلم ان كان أيّاً منّا يستطيع قمع مشاعرهو ولا أتكلّم عن تجاهلها بل نفيها كي لا يكون لها أيّ نوع من الوجود. ولكنّي أعلم أننا نستطيع السيطرة عليها أحياناً فنطوّر الجميل منها ونهمل السيّئ كأنّنا نراعيه ونطلب منه أن يبقى مدفوناً في قلوبنا أو حتّى أن يتنكّر بأشكال أخّفّ وطأة على مجتمعاتنا.
وفكّرت مليّاً لماذا نضع قبحنا في الظّل مع أنّنا نعلم أنّه موجود, والشيئ الوحيد الذي استنتجته هو أنّي كجميعكم أخاف من أن يقيّمني المجتمع. أخاف من أن أُظهر مشاعري وأُرفض فأدعها سرّاً بيني وبينها يهمس لي أحلاماً في نومي, ويترك لي رسائلاً على باب قلبي في صحوتي.
ولكن, عسانا ننسى أنّ لليل خبايا, وأنّ الخطيئة تأخذ أمجادها في ظلماته, وتتصرّف بحريّة عندما لا يراها أحد. فبدل أن تُقمع, تكون كالأيادي الخفيّة الّتي تدمّر ولا أحد يعرفها, وتتلذّذ بخوفنا منها ويصبح كل ّشيئٍ مباح...
لماذا لا نستطيع الاعتراف بأنّنا نكره أحياناً, بأنّنا في أوقاتٍ ما غير راضين عمّا تقدّمه الحياة. لماذا لا يجب أن نغضب, أن نتألّم, أن نفشل, أن نندم ونبكي ونثور, أن نكون ضعفاء أحياناً!
لماذا علينا أن نرتدي ابتسامات زائفة عندما لا نكون سعيدين؟ لماذا علينا أن نظهر أقوياء عندما نكون خائبين أو حزينين؟ لماذا لا نقبل أنفسنا كما هي حتّى يقبلنا الآخرين؟
لماذا نسمح للخطيئة في داخلنا أن تقيّمنا وتشكّلنا ونخاف أن نعترف بها!
لماذا نفضّل ابتلاع مآسينا عن أن نتكلّم عنها؟ أوليست بذلك تظلّ عالقة في أنفسنا تتحكّم بنا وتؤذينا؟ أليس من الممكن أن نجد الراحة في اظهارها واخراجها دون أن يحكم علينا؟
عسانا يوماً من الأيّام نتوصّل للاستماع للآخر بمحبّة, دون أن يشعر أنّنا ندين ضعفه فكلّنا مزيج من ضعفٍ وقوّة بأشكالٍ مختلفة ومتفاوتة. عسانا يوماً من الأيّام نتخطّى الخوف من أن يقيّمنا المجتمع قبل أن تقيّمنا الخطيئة.

قهوة من دون سكر



لا أريدك لنفسي...أريدك لنفسك...
لماذا تجلس لتأكل وحدك؟ لقد علّمتني الحياة أنّ لا أحد يختار أن يكون وحده. لماذا تحكم عليه بألاّ يخرج؟ بأن يعود ليلاً إلى جدران باردة مظلمة فارغة مفزعة... رأيته اليوم يقرأ, ينظر إلى يدي تصارع عقب السيجارة كي أبدو متوازنة. أنا أبعد شخص عن التوازن, بيني وبينه أفلام أفبركها لتعرض يومياً على شاشة الحياة. والسبب الوحيد الذي يخولني رؤية جدران منزلك هو أني أقطن في مثله. ماذا تريد منك هذه الغريبة؟ لماذا تحاول اختراق حياتك؟ لماذا لا تغمض عينيها كما يفعل الجميع؟ أ حياناً, لا داعي لتفسير كل ما يمر في الحياة, لا داعي لوجود مبررات... أحياناً, نحتاج لبساطة اللاشيئ, لقهوة من دون سكر, لكتاب من دون إهداء!
كم تعزّ عليّ رؤية سجنه السرمدي المذّهب وهو ليس أكثر من سجن... كم يعزّ عليّ كيف تخرسه! فأنا لا أريدك لنفسي...أريدك لنفسك...

يوميات امرأة عربية




أشعر كأنّي لوحة
معلّقة على جدار غرفة
كأنّي لست أكثر...
من مجرّد قطعة أثاث

أشعر كأنّي آنية
تندرج في خزانة
مع باقي الأدوات
كأنّي مجرّد وعاء
أو كوب من الأكواب

أشعر كأني دمية
وسيلة لهو للأطفال
تغنّي لهم كي يغفوا
وهي أبداّ لا تنام

أشعر كأنّي علبة
تحوي أحد المستحضرات
كتب عليها بخط عريض
للاستعمال الخارجي فقط
مسحوق مناسب للاستهلاك

أشعر كأني كلمة
تنتقل من فم الى آخر
أناسٌ بعضهم يتكلّم
والبعض الآخر بلا لسان

أشعر كأنّي مخطوطة
انتشلوها من تحت التراب
مسحوا عنها الغبار
المتناثر بوحشة
وقالوا هذه تحفة من الزمان
أشعر كأنّي مخطوطة
عالقة في متحف من زجاج

أشعر كأني سفينة
أتت من رصيف بعيد
سفينة اجتازت البحر
سفينة من دون ميناء

أشعر كأني وهم
ختم عليه بالشمع الأحمر
وعلّقوا على بابه
شعار ممنوع الدخول
هنا دفنت الحياة...

أنين الهاتف



ألقت بسمّاعة الهاتف جانباً. لن أحاول مجدّداً محاولة اٍِقناع نفسها, ولكنّها تدرك أنّها ستطلب تلك الأرقام السّتة للمرّة الألف بعد بضعة دقائق. وبين المحاولة والأخرى, آلاف الأفكار تعبر بين أسلاك خواطرها ودروب روحها. تبتسم تارّةً عندما تتذكّر عبارة تفوّه بها في لقائهما الأخير! وتعود التعاسة لتغمرها عندما تسمع أنين الهاتف الّذي يرنّ ولا أحد يجيب. قد يألف المرء الجحيم فتبات تلك الرنّات المتقطّعة كالموسيقى أو كالهيرويين, هل فقدت صوابها؟لماذا؟ تبحث عن الأجوبة! لم تتصوّر يوماً أنّها ستعود اٍلى تلك المتاهات, فقد حصّنت نفسها بمهارة من كلّ أنواع المشاعر والانفعالات خلال السنوات الماضية. ولكن ها هي الآن كما لم تحبّ من قبل, من صلب ذاتها! “علّني لو تصرّفت بطريقة مختلفة, ماذا فعلت بنفسي أو ما فعل هو بي؟ تفكّر و تفكّر! وتعود لتفكّر,ولكن هذه أنا, باضطراباتي, بخوفي, بقوّتي, بضعفي... هذه أنا أذوب بكلّ ما هو... هذه أنا أنهار... ويا لهلعي من هذه "الأنا"...”تمسك الهاتف مجدّداً, ما زال لا يجيب, تزداد انفعالاتها, تكره التكنولوجيا, تكره الحضارة, تكره الهاتف!أشعلت سيجارة أخرى, تستمع اٍلى الموسيقى, يجب أن تهدأ!لقد حذّرته منذ البداية ألاّ يؤذيها. قالت له أنّها لن تحتمل المزيد من الألم والحزن. أخبرته أنّها تخافه! لماذا لا يجيب؟ لماذا لا يقول بكلّ بساطة أنّه لا يريدها! ستفهم ولن تودّ الاقتراب... ! لماذا يتجاهلها بهذا الشكل؟تشعر أنّها دمية يتراشق بها بين أهواء نفسه!كلّ ما تريد هو بعض الأجوبة. لا يحقّ اٍليه أن يجرحها هكذا... الحيرة مقلقة, متعبة, مخيفة.غفت من شدّة التعب ودمعة ساخنة حارّة تنسكب على وسادتها. غداً يوم جديد, علّه يكون أخفّ قسوة! غداً تعد نفسها, غداً لن تتّصل...

إنسان...

إنسان...
يا رحمةً في السماء
عدلك وحده
يبدّد سوط العذاب...
أترتعد في السماء يوماً
وتخبرهم...
يا بني صليب
ويا بني هلال
أنتم جميعاً في كنف ذات الاٍله...
من قال أنّك حكر على جماعة
دون سواها...
ألا تحب قصير القامة؟
كما تحب أيضاً العملاق؟
كفانا تبجّحاً بطقوس
العبادة في القلوب
والكفر في القلوب
ولا يعلم ما في القلوب
سوى من خلق لنا الهواء
لا تقارن نفسك بي
فأنا كما أنت إنسان
وكلنا عند الله سواء...

عذراء من زجاج



يحكى في زمان قديم عن فتاة عاشت حبيسة والدتها في منزل ضخم بأسوار عاجيّة مذّهبة. مضت الأيّام وممنوع على أيّ أحد رؤية الصبيّة الّتي كبرت... الّتي باتت تتوق للخروج. سألت والدتها متى؟ متى أرى الخارج؟ متى أرى النور والضوء والشمس؟ متى أتذوّق الحياة؟
رمقتها الأم بنظرتها المعتادة وقالت :"غداً يأتي فارس من بعيد يا ابنتي ليحتفل بك عذراء لم يلامسها حتى الهواء." صمتت الفتاة وانصرفت الى غرفتها تتفحّص جسدها, وما لبثت أن تحسّست كلّ أنحائه وخدشت نفسها فانسال منها بضع قطرات دم! لم تفهم ما حدث فقد كانت تلعب, تتسلى, تحلّل ما هذا الّذي سيتوّجها ملكة... كما أنّها ضحكت لرؤية الدماء.
جاء اليوم المنتظر... الفارس الأبيض... حملها وأخذها الى منزله محتفلاً بعثوره على صفحة بيضاء. وفي اليوم التالي, أمسك بيدها مجدداً وقادها الى أسوار منزلها. طرق الباب. فتحت الأم مندهشة, فقال لها :"خذي كنزك الدفين, لا أريده, هذه المرأة ليست سوى عذراء من زجاج
."

المشهد


المشهد : صبحية نسوان اكسترا
البطولة : ألسنة لا ترحم
الدافع : كبت, عقد, غيرة وفراغ والكثير من الأسى
الهدف : يدرج في إطار الأذية والتجريح
المكان : وين ما كان
الزمان : من بدء البشرية حتّى يومنا هذا

أعراض البعض وخصوصياتهم لدى الكثيرين رغيف خبز ساخن "طازة, هلّق طالع من الفرن", يحشون به بطونهم الفارغة, الجائعة الّتي لا تمتلئ أبداً! ليس جديداً في بلادنا عشق اللّتلتة والفضائح, وتراشق التهم... ليت تلك التسالي بهدف التغيير! ليت تلك الانتقادات بنّاءة!
جامعيّة تتأبّط دفتر المحاضرات, تدّعي الثقافة والرزانة, تحبس كلّ مآقيها وتدفنها داخل الخزانة... تصلّي ليلاً نهاراً ولا تفهم شيئاً من تلك الديانة... فما أضيق الفكر الّذي لا يتعدّى صفحات الكرّاسات وقلوب لا تتوانى عن الإهانة!
نساء وطننا مخادعات, ليس لهنّ حتّى صداقات, يلملمن جراحهنّ ويضعنها في وعاء, يحفرون بسواعدهنّ كي يبدونّ مشرقات, ويندرجن في خانة الأدب والرزانة. يربطن أحلامهنّ باللّجام ويعشقن فعل الندامة. الأدب أدب النفس والرزانة رزانة القناعة بالمبادئ والقضايا. ولكنّهن خائفات, اذا تكلّمت إحداهنّ, تتفتّح جراحهن الخرساء, وبداعي الرعب, يسارعن للقول عنها فلتانة!!!
في خلوتها ترقص وتغرم بألوان الحياة,
وفي اجتماعاتها تنتقد الراقصات والهيام!
بربّكم, أليست المرأة فعلاً في المخادعة فنّانة؟
لساني حرٌّ بما أخبر
إن أنا أخرسته
إرتكبت بحقّه جرماً
لا يُغتفر...
لساني حرٌّ أبيّ لا يُقمع
يرفض رشق طلقاتكم
بزخّاتٍ من عنبر!
يرفض أن يكون
محنّطاً بالعمى
يرفض إذا رأى الظلم
للناحية الأخرى
أن يشيح النظر!
يرفض بكل بساطة
أن يكون...
قلباً من حجر!
أيا شرقنا الزاني
أما آن لك أن تكون أخيراً...
عبرة لمن اعتبر!

بين محبّتي وقناعتي المتمرّدة


حين تنوء نفسي متعبة بأعباء الحياة وقوالبها القاسية, و أرى السماء تتوارى وتبكي وتشتكي للأرض أنّها أصغر من أن تحتويها. فتحتوي الأرض الصّغيرة السّماء وجدران المنازل تنظر اٍليها بلهفة ودهشة. أعود عن التأفّف كي أحتوي نفسي وأكسّر تعبها بين محبّتي و قناعتي المتمرّدة.كانت ثيابه ممّزقة وحالته مرثية, فوددت أن أغضّ النظر عن الوحش القابع في داخله وأرى في ضوء عينيه أسير الألم. وددت الترفّع عن ذاتي كي أحتضن يقظة نفسه بكلّ مرّها و تحدّراتها! ولكنّه فرّ منّي متسلّحاً بالقسوة. أخفضت أذنيّ كي لا أسمع صراخه, أحببته رغم مخالبه الحديديّة تنغرس في لحمي. اٍقتربت كي أحتضنه فدفعني, لملمت نفسي محبطة, مبتعدة بخطوات متعثّرة. ذهبت أبحث عنه في اليوم التّالي ولكنّه قد رحل... رحل دون أن يودّعني, دون أن يعانقني... نظرت اٍليه يرحل ومن يومها أضعت نفسي وتمنّعت جميع مآقي الكون بين أجفاني, تأبى أن تنهمر فتحرّرني...

"أولادكم ليسوا لكم"


لم أشعر يوماً بالرغبة للاستماع إلى نشرة أخبار أو أيِِ من الأمور السياسيّة الأخرى كمؤتمر صحافي لأحد المسؤولين أو تصريح لآخر, ولطالما قيل لي "مش عايشة بهالبلد"! ولكنّي بالفعل لم أحصل على الجينات اللبنانيّة بامتياز الّتي تصٌّف المواطن وتضعه في خانة زعيم أو آخر فيهلٌل له عندما يصيب ويستمرّ بالتهليل عندما يخطىء.

من المثير أن يولد البشر مع عصابة سوداء على أعينهم نقشت عليها بحروفٍ بيضاء انتمائاتهم السياسية أو الحزبيّة والمذهبية, فنجد الطفل اللبنانيّ منذ سنواته الأولى يتفصّح ويهاجم ويندّد ويدافع عن عقيدة سياسيّة معيّنة وأهله فخورون به "يقبرني شو بيفهم ويسلملي شو مهضوم"! كما باتت شاشات التلفزة تعرض هذه الآراء الفقيهة, فأين أنت يا جبران لتقول لهم "أولادكم ليسوا لكم", أين أنت لتقنعهم بالعدول عن محاولة استنساخ الأجيال والأفكار الٌتي كانت وما زالت تدمّرنا...
وأين أنت يا فيروز لتسأليهم "بحرب الكبار شو ذنب الطفولة" لكي تزرعوا فيها أشواككم وتلوٌثوا نقاءها بتفكيركم المحدود...
وكم أشفق على هؤلاء الأولاد لحرمانهم ليس فقط من وطنهم بل من طفولتهم أيضاً, فبدل أن ينتظروا عرض "توم وجيري", باتوا يتلهّفون لمتابعة الأخبار, وبدل أن يسألوا بعضهم البعض عن ألعابهم المفضّلة, باتوا يسألون "أنت مع مين؟".

فما أغرب هذه الحياة تُعلٌََََّق غضب الناس, آمالهم ومآسيهم على شجرة واحدة مع آمالهم وأفراحهم. فتتضارب القيم وتختلط الحقائق مع الأكاذيب مجرِّدةً كلٌ شيئ من معناه, جاعلةًََ الأنسان أتفه من التفاهة بحدّ ذاتها.
وكيف بنا أن نتسامى عن قهرنا وكلٌّ منّا وليد هذا القهر؟ كيف ننسى ما شهدناه طوال حياتنا وكبر فينا؟ كيف نمحي آثار الألم وهي تشوّه تفكيرنا بما علّمونا من خوف وحقد وكراهيّة.

أنا أحبٌ وطني, لا بل أعشقه, ولكنّي أكره انتمائي له, ويعزّ عليّ ما نفعله به, كلٌّ بأنانيته وتعصّبه. وتوجعني رؤية تصوّراتي وتخيٌلاتي عنه تذهب أدراج الريح... وأكثر ماأستنكره وأحاول نفيه عن ذاتي ومقاومته هو كمعظم أهله, الرغبة بالرحيل عنه...

ما بين الشهوة والنزوة


يقول المفكّر نيتشه في كتابه "Beyond Good And Evil" أنّ الاٍنسان يحبّ رغباته, ليس ذاك الّذي هو موضوع الرغبة. ما بين امتلاك المرأة وتحقيق رغباته, يتوق الرجل في شهوته اٍلى المرأة القويّة, الواثقة من نفسها والمتحرّرة, ولكنّه لا يقبلها كزوجة... فللزوجة بالنسبة اٍليه مقاييس محدّدة قد يصدر منها كاتالوج بالمواصفات الطيّعة المرنة : مستورة, بنت حلال, مطيعة, مهذّبة بمعنى اللّياقة الاٍجتماعيّة, تهوى الأمومة. يجد الرجل فتاة صغيرة على هذا الطراز فيبرزها عروساً, يغذّيها بالكلام المعسول ويدخلها بيتها أو ما يسمّى مملكة.
الزوجة في البيت والمرأة المتحرّرة الّتي لا يستطيع الزواج بها حرّة طليقة في الخارج... وما بين اعتزازه بالمدخول المحترم الّي يؤمّنه للعائلة في الأيّام الصّعبة, وما بين اشتهائه المرأة العاجز عن السيطرة عليها, تكون النزوة أو ما يسمّى جهلة الأربعين, الّتي باتت جهلة الثلاثين, والأربعين, والخمسين والعقود العمريّة كافّة.
يحبّ الاٍنسان رغباته فيطوّق ما يرغب به ويوصد أبوابه كيلا يفلت منه. لماذا تدان المرأة العربيّة فلا نرى منها سوى تلك الّتي تدفن نفسها بين مخالب منزلها وترضخ للواقع بين العوز المادّي للرجل, والسند المعنوي الغير متوفّر من قبل العائلة خوفاً من الجرصة. أو نرى تلك الّتي غارت عليها الأيّام فتحوّلت اٍلى مغنّية آخر زمن أو باللّبناني "فلتانة".
لماذا يتزوّج الرجل المرأة المكسورة الجناح, يشتهي الفلتانة, يصفّق لها في نفسه ويدينها اٍجتماعيّاً, ويخاف الحرّة المستقلّة فيحاول نفيها من منزله محذّراً زوجته من "رفقة السوء"...
لماذا لا يحقّ للمرأة العربيّة أن تطلب الطلاق وتحصل على حقوقها الشرعيّة؟ لماذا تحرّف القوانين ويسخّر الشرع لخدمة الرجل مع العلم بأنّ الدين يحترم المرأة ويحفظ مكانتها؟ لم يتوجّب عليها أن ترضى بطباع زوجها وتتأقلم مع حياتها وتتالّم بصمت كي تحصل على اللّقب الاٍجتماعي "آدميّة"؟ لم تحتمل المرأة حياتها بدل أن تحياها؟!
لم تحرم أمّ من حضانة أولادها اٍذا ما شاء زوجها ذلك؟ لم يلوي الرجل ذراع زوجته بالأولاد؟ أليسوا أولاده هو أيضاً؟ لم لا يستطيع الرجل أن يحبّ بعمق ما يرغب به, ليس فقط رغباته؟
في عصر الانفتاح المزيّف, ما زلن قلائل وربما معدومات الوجود النساء اللّواتي حصدن حقوقهنّ خارج الاٍطار الاٍجتماعيّ ذو الحدّين "العبوديّة أو الفلتان"!

بقايا أنا...



إسمع أنفاسي المتقطعة
ألم تتغذى يوماً من حنيني؟
أم أنّك أسير عهد الفطام؟
قد أتى اللّيل يا صديقي
فتباهى وسط ساحة الشوق
بنساء تحوّلها إلى حطام...
كيف يقولون عنك بخيلاً؟
أنت من زرعت بساتين الأمل
ولم تات حتّى للملمة الحصاد!
متى تشفى يا عالماً
من عقمك, من تعصّبك
وتشرّع لحريّة امرأة الاضرام...
قامرت بكلّ ما أملك
وقدّمت نفسي ذبيحة فوق ذزوة الحياة
علّني أفسّر كلمة أنثى
أنثى خارج عالم الغلبة
فابتلعوني وقالوا
ما أجمل محياها...
شربوني وقالوا
ما ألذّ سكرتها...
وبعدما أصابتهم التخمة
وامتصوا جسدي كلّه
رموا عيناي وقالوا هذا جثمان
جثمان امرأة محتالة
سرقتنا وهربت
ولكننا ألقينا القبض عليها
ألسنا نحن بحقّ.... رجال؟؟؟؟
رجال يسارعون للالتهام
من دون حتى التذوّق
رجال يتباهون بحاسة السمع
ويجهلون ما هو الإصغاء
رجال تركوا لي مقلتاي
لأنّهم خافوا...
خافوا أن يروا العالم بعيناي...
حاولت مجدداً...
في داخلهم
بعدما كنت لهم طعام
أن أحرّك أعماقهم
علّني أحقّق انتصار
فقالوا أصبنا بعسر هضم
لم يجدر بنا أن نأكل بسرعة
هلمّ ندخل كي ننام!
وفي نومهم...
ظهرت لهم أحلاماً
توقظ فيهم فعلاً سواعد رجال!
في نومهم احتضنوني
وفي صحوتهم نفوني
أمّا أنا فقد رحلت
وما حاربت لآخر لحظة به
كان مجرّد بقايا أنا...

على أدراج الحياة...


وقفت في محطة القطار منتظرة أن ينادي السائق وجهتها... تحمل في يدها حقيبة جلديّة باهتة اللّون تتناقض مع انسياب فستانها الحريريّ الأسود على جسدها النحيل... الفستان يتلاءم على جميع الأحوال مع نظّاراتها الشمسيّة, فكلاهما يغطيان آثار كدمات نقشها على جسدها ووجهها بيده السمراء الحادقة وكلماته المهينة والمعنّفة....
وفي لحظات وهن ذاكرتها, أغمضت عينيها وعادت اٍلى أيّام كانت تشبه الأيّام, ولم تكن فقط ساعات وأزمان تمرّ فيها الأوقات مرور الكرام وتسقط سهواً في محرابها كلمة الحياة!
على سلّم ناءِ يقع تحت مبنى المدرسة في بلدتهما, كانت تلتقيه يوميّاً الساعة السادسة كلّ مساء, يتحدثان ويضحكان ضحكات ملاى القلوب, يوشوشها كلمات عذبة تنقلها اٍلى عالم الهوى والهيام وتطلق من بركان ذاتها حمم الأحلام, أحلام عاشقين بدأت حكايتهما ما بين قبلات كانا يسرقانها على ما يسمّى سلّم الخطيئة.
كيف ارتدى أثواب اللّطف والحنان؟ تراها كانت أقنعة كتلك الّتي يحتمي بها رامي السهام وتغطي وجهه كي يكون مجهول الهوية. استدرجها كي تغرم به كليّاً من رأسها حتّى أخمض قدميها وتهرب معه في اٍحدى اللّيالي متحدّية رفض أهلها لحبيب استطاع بذكاء لا يستهان به أن يستعير قناعاً لملاك!!
نفس الحقيبة الّتي حملتها ليلتها ولملمت فيها بضع أثواب وحاجيات وزجاجة عطر فرنسيّة أهداها اٍيّاها في عيد مولدها... نفس الحقيبة الّتي تحدّت بها مشيئة والديها... نفس الحقيبة لملمت فيها اليوم أيضاً بضع أثواب, ولكنّ الأثواب باتت بالية والحقيبة باهتة تكاد تتمزّق من كثرة ما حوت من جراح... تكاد تفلت من يد صاحبتها, ليس لأنّ وزنها تضخّم بل لشدة ما أصاب تلك المرأة من ضعف ونحول وحوّلها من فتاة تعدو بسرعة الريح على ذلك السلّم الآثم اٍلى أشلاء امرأة.
المؤسف أنّها تحب الوحش الكاسر الّذي ضربها البارحة, تبحث في داخله عن رجل أضاعته الحاجة, هاجمته زوبعة ضياع, جرفته فغرق فيها... تآكلته آلآم يعكسها صفعات وشتائم على جسد من كانت يوماً حبيبته!
انهمرت دمعة شفافة أشبه بالكريستال على وجنتها, دمعة تسرّبت من عينيها المكابرة الّتي ابتلعت باقي الأدمع...
اليوم بلغت الحضيض, اكتفت. لن تقبل المزيد من الاعتذارات ... اعتذارات تتلقى بعد مرور بعض الوقت على انقضائها وابل كدمات!
اليوم فجر جديد, فجر المنطق ووضع الحب في سلّة الخرافات... صحت من كل تلك الأفكار والصور على صوت السائق ينادي قطار بيروت-زحلة...
الآن ترحل إلى غير عودة...
الآن ترحل إلى رحلة النسيان...
الآن ترحل لمواجهة الأقدار...
الآن ترحل لأنّ لا مفرّ من الرحيل... لا مجال للتلاعب على الذات ومحاولة إقناعها أنّه سيتغيّر فحتّى الذات سئمت ولم تعد تصدّق....
الآن ترحل لأنّ ما قد بدأ على سلّم الخطيئة انتهى بين أسلاك الألم على أدراج الحياة...

تفاصيل...


جاءتني تتوعّد, تصرخ, تصرّح أنّها لن تسامحه يوماً, أنّها لن تستريح اٍلاّ اذا دمّرت حياته. ثارت, شتمت, نعتته بأبشع الصفات. "أنا مدمنة", قالت,"مدمنة, واعية تماماً لآثار المخدّر السلبيّة الّتي أعاني منها, أحاول الاٍقلاع, ولكنّي أمرّ بلحظات ضعف, تدفعني للتصرّف بدون اٍدراك, أفقد الوعي, التوازن... أنا مدمنة, ولكن كفى! أشعر بالذل كلّما خابرته ولكنّي أحتاج الى سماع صوته."
أوقفت السيّارة جانباً, فقد وصلنا الى منزلها. قالت أنّها قد تموت من دون أن يدري لأنّه بكل بساطة لا يسأل عنها. انتقلت اليّ, تسدي لي نصائح لم أطلبها عن حياتي. تطلب منّي أن أكون قاسية, أنانيّة, ألاّ أفكّر بالمحيطين بي, ألاّ أكترث سوى لنفسي. أخبرتني كم تهمّها سعادتي. ابتسمت بهدوء فلا أنا ولا هي نستطيع تخطيّ حدود الذات, الرحمة ونتقنّع ببراقع استغلاليّة.
عادت تخبرني كم كانت حساسة, بريئة, كيف دمّرها, كم من الأذى تلقت منه, كيف حوّلها الى أخرى غريبة عنها, باردة, متعطشة للانتقام... دفنت وجهها بين يديها واسترسلت بالبكاء لأنّها تشتاق الى نفسها! "لماذا أحمّل نفسي مأساته, أشعر أنّي مسؤولة عن اٍطلاق الاٍنسان الحساس في داخله, لأنّي أعلم بوجوده! لن يتغيّر, حاولت مراراً..." انتقلت الى تفاصيل حياته, كيف ترعرع في بيئة محبطة, عن عائلته, عن تقاليد طائفته المختلفة عن طائفتها, أجواء بيته الخالي من الحنان, عاداته الغريبة, رؤيته للدنيا, انشغاله المستديم بالعمل الحزبي. هو رجل مهم على الصعيد الفكري, معدم الحال لأنّه يحارب من أجل القضية : " أعلم أنّ خميرته جيّدة, ولكنه ليس اٍنساناً طيّباً. تفاصيل... كل شيىْ لديه تفاصيل... يحبّني ويطلب منّي أن أعيش لساعة من وقته يمنحني اٍيّاها خلال أشهر. ماذا عن المتبقي من الوقت, أين هو الآن؟! أين هو الآن؟! أين هو الآن؟!".
اكتسبت عادة التدخين منه. في النهار, تحاول اٍبقاء نفسها مشغولة, وفي اللّيل, بين جدران الوحدة, "بتنقضى معي بكم سيجارة وفنجان زهورات أو حليب سخن مع أني ما بطيقو." بدأت تشرح لي عن فوائد "الزهورات" وكيف يقودها للنوم, وأنا أضحك لأنّي لا أعلم ما يمكن أن أقول!
الآن تحلّل عقدته النفسيّة الّتي جعلته "غير عاديّ" "ولكنّه استغلالي", قالت بيأس, " لا يتوانى عن الاتصال بي اذا ما احتاجني واشتاق اليّ, ويتوقّع أن أستقبله. ماذا عنّي أنا؟ عندما أشتاق اليه, عندما أمزّق شراييني, أحرق ذاتي وأشعر بها تنفجر وحدها. أين يكون؟", تبكي, " أهذا الحب؟ ألا يكترث سوى لنفسه؟ سأريه, سأجرحه, سأربي مخالب أخدشه بها..."
ثمّ عادت للتناقضات, للحب, للمشاعر, تعترف بها تارةً تمّ تنفيها, تشكي لي ألماً ممزوجاً بلهفة, سعادة... حاولت الخروج مع غيره ولكنّه يطاردها, لا تنساه! شتمت كل العواطف, أنكرت حبّها اليه, أدانته وعادت تعذره, تشفق عليه...
هدأت أخيراً. فتحت باب السيارة كي تنزل وقالت :"لن أتّصل به, لشو؟!" طبعت على وجنتي قبلة, شكرتني للاستماع وذهبت. راقبتها تلملم دموعها, كي تبدو طبيعيّة أمام عائلتها...
جميع تلك المشاعر المتناقضة, الضياع, الحب, الخوف, الألم, القوّة, الضعف... كلّها شهدتها ولم أفهمها! كل تلك الغرابة, الهالة التي أحاطته بها... لم أفقهها! أهي فعلاً تفاصيل؟! هل يحبّ الاٍنسان من دون أن يتوانى عن تعذيب من يحب؟ أنسلك درب المحبة ولو أدمانا شوك ورودها؟ أنا لست أدري....
أتستمر تحبّه من دون تفاصيل. واذا ما فعلت ذلك, ما النهاية؟ ماذا تفعل بنفسها؟ أتستطيع وضع ذاتها جانباً؟ قد تكون رائعة اذا ما فعلت ذلك, او حمقاء! ! أنا لست أدري...
قد يكون استغلالي او مدّعي, أنا لست أدري...
أيفهم محبتها؟ أنا لست أدري...
لن تفهم الشجرة يوماً كيف تكون الوردة الصغيرة, ولا الوردة ستفهم كيف تكون الشجرة الضخمة. ولكنّهما قد تنظران الى بعضهما البعض وتغوصان في ألغاز مبهمة وتبنيان عالماً من الصعب اختراقه, عالم بلا تفاصيل ومدجّج بها في الحين نفسه...

إستيقظ...



رحل ناسياً الضوء خلفه...
إنّها تركض حولك وتلعب... بعينيها الجذلى تنظر إلى كيانك بأكمله فوق صخب الحياة وضجيجها المبعثر. رنين صوتها في أذنيك يهمس لك اسيقظ لتكتشف هذا العالم المجنون الّذي تعيش فيه... لتقف عارٍ من كل شيء إلاّ أنت... هذا الزمن الوئيد يمضي كما يشاء, يخط على وجهك خرائط وعوالم متداخلة كأنّما الكون لك! الكون كلّه لك ولكن لا رغبة لك فيه...
إنّها تحاول رؤيتك, وبعض من الخجل ينساب الى عينيها. شتيت من رجفة وخوف... تهزج باسمك دون أي كلام وتلفظه بلا أي سبب, تضرب في دروب وأفكار تتردّد بين ثقوب الوجود وتنتظر بلهفة وكبرياء.
زمن الأشياء الّتي تتهاوى على جميع وجهات الشاطئ وتتغذّى من غمد الحياة, زمن كل الاتجاهات الّتي تثمر أولا تثمر, زمن الرغبات الملونة والأحلام المحفوفة بالأوهام...
فارجعي الى بيتك يا صغيرة, الى ثيابك المهملة وقصائدك المغبرة, أنت أصغر من أن تحتويه...
لكنّها تأبى الرحيل, ما زالت واقفة هناك, بإصرراها تحطّم كل ما ترى من أغصان في تلك الصومعة فهي تعلم أنّه رحل عند الغسق مخلّفاً التساؤلات وراءه... تلامس شعره المشعّث برطوبة رفضها الثائر وتصرخ استيقظ!!!

افعل ما تشاء



اشرب, اذا أحسست بالحاجة الى ذلك, من كوب نصف ممتلىء. اضرب, اذا أحسست بالحاجة الى ذلك, على أوتار عود مكسور. اسبح, اذا شئت, على شاطىء الرمل القريب, ولكن لا تقل أنّك شربت كأس الحياة, ولا ترنّمت بألحانها, واٍيّاك أن تتجرّأ فتقول أنك سبرت الى غور البحر فعرفت أسراره. فجلّ ما فعلت أنّك عمت على السطح ولم تلامس حتّى عمقه.
اسهر حتّى الصباح, اذا أحببت, مخدّراً بالقهوة, ولكن لا تقل للّيل أنا صديقك, ان لم تلامس قلبه وترى في سواده أبعد من السواد. طبّب, اذا أردت, جروح الضعفاء ولكن اٍيّاك أن تحسب نفسك الدواء. أعط اذا أردت القليل من المال لمتسوّل أو بائع علكة في الشارع, ولكن لا تحسب نفسك سخيّاً وتبتسم فخوراً وأنت توفي جزء من دين وهبته اليك الحياة. أقفل اذا أردت زجاج سيّارتك في وجهه وتأفّف, ولكن اٍيّاك أن تنظر الى عينيه. تقضي الحكمة ألاّ يحوّل التواضع الى عظمة, ولا الغرور الى تعجرف.
فلتنهمر دموعك اذا تألّمت, اصرخ, تأوّه, ولا تحسب بكاءك بمرارته ضعفاً, انما هو انقشاع لتلك الغشاوة الّتي تلبّد عينيك وتجدّد روحك.
احلم, اذا أردت بمنازل عاجيّة, وأسوار ذهبيّة, ولكن لا تحسبنّ أن تجد السعادة, فليست أحلام هؤلاء الّذين ينامون على الأسرّة الورديّة أرقى أو أعذب من أحلام الّذين يفترشون البلاط. أقطن, اذا أردت, في قصر منيف, ولكن اٍيّاك أن تنظر الى الكوخ بعلياء من عرشك البعيد, فالدفء في انحصاره وبساطته أصدق وأشدّ حرارة من الدفء في قصرك البارد ووساعته الفارغة.
اسرق, اذا شئت, من فم جائع, او غنيّ فائض, ولكن لا تحسب الحاجة في انسدادها انتصار, اٍنّما المخدّر يبنّج الألم ولا يزيله. احكم, اذا شئت, على سارق محتاج, ولكن اٍيّاك أن تحسب نفسك عادلاً وأنت تقف بين الحشود مصفّقاً للّصوص الكبار الّذين تتوّجهم ملوكاً وحكّاماً!احلم, اذا أردت بغد واعد ومستقبل زاهر, ولكن لا تحسبنّ الأشجار تثمر من دون شمس, وماء وهواء, و لا تحسبنّ أحلامك تتجلّى ان لم تعمل وتفكّر وتجتهد... واذا تلاشت الأحلام كسراب زارك أيقظك ورحل, احزن

"حدّقت مطوّلاً إلى القمر فسقطت سهواً النجوم!"



كلّ ليلةٍ على شرفتها
تقف, تنتظر...
تحدّق اليه...
تناجيه : "يا حبيبي يا قمر,
أما من سبيل للوصول اليك؟"
ساعات تمضي وهي تكلّمه
تكتب له القصائد..
ترنّم أعذب الألحان
تشكو له الهموم
تسلّيه...
وهو يومٌ مكتمل
يومُ هلال
يومٌ يأتي
وآخر يختفي...
وهي تقول:
"يا حبيبي يا قمر
لم يهن عليك فراقي
عدت تشعّ من أجلي
كم أعشقك لمّا تعود..."
إلى أن سمعت يوماً صوتاً خفيفاً
قادم من السماء
"لماذا لا تردّين
كلّ يوم أكلّمك
وأنت لا تجاوبين
أسألك هل ترينني؟
وأنت لا تفهمين!"
كاد يغمى عليها
بدأت تقفز بانفعال
"يا حبيبي يا قمر,
أنا هنا, أنا هنا,
أخيراً أنت لي!"
"يا أختي...
أنا لست القمر,
أنا إحدى النجمات!
أخبرك مراراً...
كم أحبّ صوتك
وصدى أغنياتك
,لا تسمعين..."
امتعضت وعنّفتها
"ما أدراكِ أنت بليل العاشقين؟!"
حزنت النجمة
وصمتت خائبة...
"هذه النجوم الصغيرة
بلهاء...
تحسب نفسها من العالمين!"
مضت سنة كاملة
وجارتي على حالها
إلى أن اختفت...
أنظر الى شرفتها ولا أجدها...
عزمت أطرق بابها
أسأل ما بها
ولمّا فتحت
قالت لي
"حدّقت مطوّلاً إلى القمر فسقطت سهواً النجوم!"

أبجديّة آدم وحوّاء



دأبت تلملم بضع قمصانه المبعثرة على أرضية تلك الغرفة الّتي تآكلها الغبار. نزعت تلك الملاءة المتّشحة بالاصفرار عن سريره وأزاحت الستار لينبثق شقٌّ من الضوء في تلك العتمة. زجاجات خمر فارغة وسجائر منطفئة في كل ركن... جلست على ذاك الكرسي الصغير في زاوية الغرفة. شدّت بيدها على فوطة المسح تعصرها وتعصر نفسها كي تبكي ولكنّ أقسى أنواع المآقي هو ذاك الّي يتمنّع عن الانسكاب ويعلق في الحنجرة دون أيّ سبيل للخروج. سمعت صرير الباب. لملمت جراحها. تماسكت نفسها وتظاهرت بالانهماك بالتنظيف علّه لا يلاحظ تجهّمها. ألقى التحية فبادرته بالمثل محاولة أن تشيح النظر عنه. اقترب منها. أمسك يدها وثبّت عينيه في عينيها الّتين تحاولان الهرب قبل أن يصيبهما انهيار تام. اخترقت علامات الأسى على وجهها ابتسامة من النوع الّذي نرسمه قبل أن ينهمر وابل الدموع. ولكن, هذه المرّة سبقها هو! أجلسها على ذاك الكرسي ليدفن رأسه بين أحضانها ويجهش بالبكاء كما لم يفعل من قبل, كطفل صغير سرقت منه قطع حلوى جمعها مطوّلاً في أيّام العيد. غمرته بشدّة, بقوّة أقحمت دموعه بين دموعها ليختلط الملح... هو يبكي وهي تبكي ولا أحد يفهم ماذا يجري...
ساعات مضت وهو بين أحضانها دون أيّ كلام, صمت كليّ مقدّس لا يقاطعه أيّ ضجيج... روحان تتعانقان بعيداً عن سخافات أبجدية آدم وحوّاء وتصدران بدل الحروف مقطوعات موسيقية من أنين. انطفأ النهار ولامس الضوء أطرافهما ولم يسمع في الصباح سوى ضحكات امرأة ورجل تغلّبا على الحياة...

صراصير محنّطة



المشهد الأول : باريس – شتاء 1986
المطر مغري... رائحة الهواء البارد يداعب أنفها الصغير ويتداخل في رئتيها ليعيد ضخّ الحياة...
المطر مغري... تخلع عنها المعطف الأسود الكشمير وتلقيه على الكنبة...
المطر مغري... تفكّ شعرها المجدول وتنفضه لينهدل...
المطر مغري جداً! تتوجّه نحو الباب... تفتحه بهدوء... الساعة الحادية عشر والظلام الدامس في الخارج لا يرعبها. تمدّ يدها لإحضار كرسي ثمّ تتراجع... لا تحتاج واحداً. تجلس على الأرض المبللة وسط الشرفة الخارجية الواسعة والمطر ينهمر بشدة على شعرها, وجهها وجسدها وهي لا تشعر بالبرد. العواصف تهدّد الأشجار وتكسّر الأغصان. السماء ترتعد برقاً ورعداً وهي لا تشعر بالرهبة. تغمض عينيها وتستمتع بالسكينة وتتلذّذ بكل زخّة مطر.
يأتي هو الساعة الواحدة بعد منتصف اللّيل... يتأبّط تحت ذراعه كتاباً للعملاق نزار فبّاني, ويمسك بيده مظلّة تحميه من المطر. يراها... يشعر بالغضب, يسألها بعنف "لماذا أنت هكذا؟! مجنونة..." يأخذ بيدها ويقودها إلى الداخل. يخلع معطفه الطويل ويغطيها به. يحضر منشفة, يمرّرها على وجهها وشعرها. يبدأ بتحسّس وجهها, تغمض عينيها, تبادله بالمثل, تتحسّس عينيه, أنفه, وجنتيه, شفتيه... يغمراها بحنان. تلقي برأسها على كتفه وتنتعش روحها لمرور المطر وشعوره في ذاكرتها.
تجلس قرب المدفأة, تتأمّل وهج النار المتّقدة... يدخل ليحضّر القهوة... تضع اسطوانة لماجدة الرومي "كلٌّ يغنّي على ليلاه وأنا على ليلي أغنّي, غنّيلك آه يا بلدنا آه علّي سرقوا أرضك منّي..." يأتي بالقهوة. يرتشفانها بصمت. عادت الحرارة إلى جسدها, جفّ شعرها والموسيقى مستمرّة. يتأمّلها. تنظر اليه بعينيها الغارقة في الأحزان. تقترب من كرسيه. تجثو على الأرض وتلقي برأسها على حضنه. يداعب شعرها. تبدأ بالكلام "سئمت المنفى... أريد بلدي..." تغنّي يا بيروت, يا ست الدنيا يا بيروت... تسترسل بالكلام الغير واضح "أعشق المطر... أشتاق إلى تراب بلادي... آمنت بعدلك يا رب... أحبّ قربك منّي, شعوري باندماجك داخلي... لا أشعر بالجوع... قد أستطيع إدمان القهوة..."
تسكت. يبدأ بقراءة شعر نزار في الكتاب الّذي جلبه بصوته الغريب, نبرته المحبّبة على قلبها:
مدينتنا...
تطلّ أثيرة عندي
برغم جميع ما فيها...
أحب نداء باعتها
أزقّتها
أغانيها
مآذنها... كنائسها
مدينتنا راضية بمن فيها...
بآلاف من الأموات
تعلكهم مقاهيها...
لقد صاروا مع الأيام,
جزءً من كراسيها
صراصير محنّطة
خيوط الشمس تعميها...
تضحك لعبارة صراصير محنّطة... تضحك ملئ قلبها... تعانقه وتقبّل وجنتيه مقهقهة. تركض إلى الداخل. تحضر عصابة سوداء وتضعها على عينيه. تسكب كأسين من النبيذ الأحمر. ترتشف القليل من كأسه وتسقيه من كأسها. تجلس قبالته. تمسك بيده وتشدّ عليها. تقبّل كفّه, وتبدأ بالقراءة هي الآن, خواطر دوّنته لو وحده, وليس لأحد سواه.
أنت مدينتي
تخفّف وثيرة صقيع المنفى
تحملني للأضواء الوردية
للّيل المقدّس المخضلّ
لذلك الأمل الشحيح المنسكب
وسط الضجر الشاحب والملل الكئيب
لك تهمس النجمات
وتثور الأمواج
وتستكين الأوقات
فتمضي الساعات في وجودك لحظات
وتمضي اللّحظات في بعدك ساعات

تزيل العصابة عن عينيه. تبتسم. تضع اسطوانة أخرى لكوكب الشرق هذه المرّة, ترنّم "خليني جنبك خلّيني, في حضن حبّك, وسيبني أحلم سيبني..."
يمضي اللّيل وهي بين أحضانه وأحضان الخمرة المعتّقة من كروم بلادها...
لوهلة, تنسى المنفى... تنسى الحرب... تنسى الدمار... وتهمس في أذنه :"آمنت بك يا وطني!"