الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

ندم على لائحة الانتظار

على أرصفة الحياة نعدو حين يرفض بعض العمر أن يتلاشى... نعدو أطفالاً ونغدو كباراً، كباراً على رماد الظلام وشواطئه التي تصر على إذلالنا. نهرب من الواقع الى واقع أفظع جاف، معاق ومريب... نتوق الى الطفولة، تلك التي تغضب دون ان تدرك ما هو الغضب، تلك التي تعشق دون غواية العشق، وتحلم دون ضباب الاحلام...

ننجح أحياناً في ابعاد الأسى عن دوائر حياتنا فيلتهمنا الظلم المنسوج في الذاكرة، ذاكرة النسيان المدفونة في الاعماق المدوية...
تستمع الى أغنية شجية اللحن لتدرك أن عينيها سريعتي العطب فتنهمر دموعها بغزارة وتشعرها قدرتها على البكاء بالريبة. تتخايلك تعبر الحياة كنسمة بالغة الرقة لدرجة تفوق قدرتها على احتمال العذوبة المسلوبة وسط وعود ذهبت أدراج الريح لحظة ادراك الحقيقة عند مفترق الطريق. تخلفها وراءك تحت وطأة الواقع، ذاك الذي لا يمت الى الواقع بصلة فتبارك احتضاراتها بالانتماء الى اللاشيء، الى العدم، العدم العبثي الذي يعزز في داخلها الرغبة في نسيانك فيصعقها تعبير التوتر الذي لا ينفع سوى ليحرضها على تذكرك من جديد.
ترتعش المدينة في داخلها وتتأملها كما لم تفعل أبداً، بعينين نهمة تحتاج للوجود، تذوب في كيانها، تلقي برأسها على مبانيها وتطلب منها الغفران.
تعود بها الذاكرة الى ملامح تلك الغرفة الفخمة في جناح الفندق المبلسم، ملامحها أشبه بالربيع، الربيع الميت الذي يلبس أزياء تنكرية في الشتاء، فتجتاحها نوبات من الذعر، تصم أذنيها كلماته المرتعدة وضحكته الشنيعة المدوية التي تصر على استعبادها وتحقّر نداوتها بخشونة تفاهة تملكه لها. تستذكر عبارة عالقة في ذهنها، الجنس هو ما نهرب اليه عندما لا نجد العاطفة، فتضحك بسخرية مطلقة من روعة التعبير. يخبرها أن هذا السائق مجهّز بأجهزة كاتمة للصوت ويطمئنها أنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ليبدأ بتمرير أصابعه بين خصلات شعرها الليلكي المنسكب على عنقها العاري ويستمر بروية تدريجياً ليصل الى صدرها البارز تحت فستانها العاري الساتان الذي ابتاعه لها. يغمرها احساس بالغثيان والانقباض فتبتلعه وتحنّط جسدها عبر رسم ابتسامة صفراء على ثغرها الملبّس بشفتين مفتوحتي الجراح، لتشعر انها مجرد جثة، جثة تحاول الموت بين احضان الغريب الذي لا يستطيع الانتظار كي يعريها. تنبعث فجأة في جوفها رائحة غريبة من عطره الاخاذ، رائحة وحدها تستطيع ان تشمها، رائحة الموت والالم، رائحة اسخف محاولات النسيان في اراضي الانتقام، الانتقام من صورة حبيبها الاصلي المرتمي بين احضان صديقتها المقربة. تدرك الفرق بين الانامل والاصابع وينتابها حزن شديد، لقد عزمت على استئصاله من داخلها وليلتها مع الغريب اشبه بضمانة انها لن تستسلم وتعود الى رياء الانامل.
كيف أقنعت نفسها بمرافقته الى "الاوتيل"؟ كيف ارتمت بين احضانه وعزمت على التعري معه لتمارس على جسدها اسوأ انواع التعذيب والمازوشية واجباره على الرضوخ لنزوات حقدها وغضبها؟ هل تلتئم الجراح بجراح أخرى؟
لم تعد تدري، فقدت حس الادراك في نزف تجربتها المذلة. "آه، كم أنت شهية..." همس في أذنها وهي تشعر انه يلتهم جسداً ميتاً، مبتور الأطراف، رغبت أن تسأله عن طعم الأموات ولكنها أذعنت وابتلعت نفسها مجدداً فقد قررت الخضوع لدوامة الحقد والمضي بها حتى بلوغ خط النهاية. انتهى من تناول وجبته الشهية، أطبقت جفنيها وأدركت أنها لن تعود يوماً الى ما كانت عليه. ارتدت ملابسها وطلبت من السائق ان يوصلها الى منزلها. هكذا احتضرت لحظة خانها وهكذا انتحرت لحظة قررت اغتياله.
كل شيء بدا مختلفاً في اليوم التالي، البحر الذي كانت تعشقه، السماء التي كانت تلتحفها، حتى المباني والاشجار، دمرها الخوف والغدر. وحده حبها المهدور في غير مكانه هو ما اغراها للارتماء بين احضان الطبيعة ليشعلها كلهيب الشمس ويهدئ روعها كما لو ان حبيبها عائد ليربت على جسدها بحنو ويبتلع أدمعها ويطمئنها انها لم تخسر ذاتها وانه ما زال هناك من سبيل للرجوع.
تختفي لأيام، لأسابيع... لن تعاود الهرب الى احضان ذاك السافل الذي يشتهيها دون ان يشعر بها. تحلم أن حبيبها الاصلي سيعود ويعتذر نادماً، ولكن بم ينفع الندم؟ تحلم انها في وحدتها، ستستيقظ بقربه وتلامس شعره المشعث وتدفن رأسها بين أضلعه وتهمس في أذنه، ما زلت أحبك أيها المعتوه، فيشد على جسدها ويشعره انه يحتويه ليتخطى حدود الاجساد لبرهة كما لو انه حمل الى اعلى الذروات التي تسمح له ان ينتفض ويطير. لمسة يده وحدها كانت كفيلة بالنسبة لها ان تغير بكل بساطة مجرى حياة...
تعود عبارة "انت شهية" لتدوي في أذنيها، تطفئ حاسة السمع، تنهال على القدر ضرباً وشتيمة وتثور في سرير وحدتها المفجوع. تلمع رسالة قصيرة على هاتفها "سامحي افتتاني بالأخرى، نحن معشر الرجال اعتدنا احضان العاهرات، ندمي يجعلني التهم التراب الذي عليه كنت تدوسين، ندمي يفترش سريري عندما تحكمين علي بالغياب". ترمي هاتفها بثورة وامتعاض وانكسار... حماقة الواقع هي السكين التي نغتال بها عذوبة الاحلام. نغدو كباراً حين يرفض بعض العمر ان يتلاشى فنتلاشى نحن. كيف تصف له شعور المهانة الذي تكتسيه ويعريها في كل لحظة؟ كيف تخبره انه في بعض الاحيان يأتي الندم متأخراً فلا يجد له مكاناً حتى على لوائح الانتظار!

السبت، 18 أكتوبر 2008

سيّدي المجتمع...

سيّدي المجتمع...
أراك تحمل جميع تلك الشعارات المدوّية وتنادي بالحرّيّة والعدالة والتضامن.
أراك تخطب على المنصّات وتتهافت على الصلاة وتلبس أفخم أنواع الأقمشة وتتناول أشهى المأكولات.
أرى جيوبك وقد امتلأت أوراقاً ومعادن ماديّة وعينيك أبداً فارغة تطلب المزيد.
أراك ولا أصفّق... ولكن ما هو مجرّد صوت واحد, صدى لتصفيق جديد وقد أجدت بقدرة الحاجة و"التعتير" تخدير وترويض آلاف الأيادي...
سيّدي المجتمع...
الأدب لك طبعاً ولك التبجيل والاحترام والمديح لقدراتك المعتّقة لوضع حد لهذا الخراب.
لك أيضاً أرواح أمّتنا والجثث الملقاة باسم الوطن ولكن ليس فداه.
لك الأغنية الّتي تقول "الماضي لك, وبكرا لك وبعدو لك!"
لك عويل الأمّهات...لك بطونٌ فارغة, البعض بسبب "الريجيم" والبعض الآخر بسبب "الحرمان"!
لك ضمائر لا تنهض من نومها فقد وجدت لذّة في ذاك السبات.
لك الأمر والنهي فارحمنا أيّها السّفاح!
سيّدي المجتمع...
أصحو كلّ يوم على أمل أن تحدث أعجوبة, أن يصفع أنين مواطنيك وجهك فتستفيق وتتغيّر. ولكن لا...
أرى جبروتك يزداد يوماً بعد يوم, وأحياناً لا أملك سوى أن أبكي وأبكي وأبكي, وأعود لأتمرّد وأثور...
ولكن, ما همّك أنت من انفعالاتي؟ لن ينزل يوماً من في القصر العالي ليتأملّ بصدق ماذا يدور في الأقبية.
سيّدي المجتمع...
الضجر من طقوسك يعميني, كذلك الشعور بالوحشة والمنفى داخل وطني! وطني الّذي صادرته فكان لك أبناؤه سجناء وكان هو تجارة تمارسها بحق بلدي الأسير.
الغيظ يفتك بشراييني والصمت يتآكل أحشائي! نظرات أطفالك توجعني فأيّ غدٍ ينتظرهم؟ أيّ مستقبل قد نرسم في ظلّ هكذا موازين؟
سيّدي المجتمع...
أما أن لزمن المخاض أن ينتهي؟ آه كم نتوق لزمن الولادة!
أما آن للأقنعة أن تسقط؟
إنزل ولو لمرّة من عليائك لتتفرّج على الحطام بدل أن تدوسه.
أنت تمارس علينا السادية ونحن نمارس المازوشية على أنفسنا! وفي الإثنين يا سيّدي عقم, عقم لن يخوّلنا أبداً على الإنجاب.
سيّدي المجتمع...
نحن لسنا من النوع الّذي يهوى السقوط... ولن نستطيع إدمانك... ولا نستطيع أن نقول سوى "لا" ولا ولا...





الجمعة، 17 أكتوبر 2008

على أنغام الذاكرة المبتورة


أخرجت من جيبها محفظة ممزّقة وأخذت تحصي النقود المتبقية لديها. راحت تفكّر وتحسب إن كان باستطاعتها تدليل نفسها بشراء وجبة دسمة كتلك الّتي تراها في الإعلانات على التلفاز. باءت مهاراتها في المحاسبة بالفشل, فما زال عليها أن تدفع للبقّال حسابه وإيجار ثلاثة أشهر لصاحبة المنزل الغاضبة, عدا عن فواتير الكهرباء والمياه الّتي يهدّدون بقطعها عن شقّتها. كما أنّها تحتاج لبطانية سميكة فالشتاء على الأبواب والبرد بدأ يلسع جسدها تحت ذاك المعطف "المهلهل" والحذاء الممزّق. حدّثت نفسها قائلة "تبهدلتي كتير يا منى!". لمعت عينيها وهي تنظر إلى ذاك المطعم الفخم ورائحة الأكل الشهي تخترق حواسها "يلاّ وإسّا حتتبهدلي أكتر", إسترسلت تحدّث نفسها. لم تعد تشعر لا بيديها ولا قدميها, اقتادها جسدها صوب تلك الرائحة الدافئة اللّذيذة لتنفق آخر ما تملك من نقود على ماعدتها الفارغة منذ مدّة سوى من فتات خبز وزيتون, هذا إذا ما استطاعت الحصول على الزيتون. أخفت الكيس الّذي حوى طعامها تحت معطفها خوفاً من أعين أهل الحيّ الّذين ينتظرون أن توفيهم ديونها المتراكمة. أخرجت المفتاح ودخلت شقّتها كاللّصة. أسندت ظهرها على الباب وتنهّدت بارتياح. فتحت كنزها الدفين وأخذت تلتهم تلك الوجبة بيديها وفمها وحواسها كافّة بشراهة ونهم وجوع. أنهت طعامها. تمدّدت في سريرها وبدأت تتحسّس بطنها المنتفخ برضى وابتسامات وسرور. أخرجت محفظتها مجدّداً. بدأت تقلّبها ثم ألقتها جانباً بعصبية. لم تود إفساد شعورها بالشبع بالقلق المضني. لا, ليس اللّيلة فروحها غير قادرة على الاحتمال. اللّيلة, لا تودّ التفكير بالإيجار المتراكم ولا الألم المقبل. لا تودّ تحميل نفسها مسؤولية فساد الأمّة العربيّة. من يصدّق أنّها تفعل ذلك أحياناً! إكتفت! فقدت الرغبة بإنقاذ البشرية. سئمت الشعور بالذنب وتحميل ذاتها وزر خطايا المجتمع فمن يفكّر فيها وهي ملقاة بين أحضان الجوع والبرد وعلى شفير الإنهيار.على الأقلّ, اللّيلة لن تنام جائعة! هذا سبب كافي حالياً للاحتفال. داعبت وجهها محاولة إقناع نفسها أن تطرد الهواجس "أكتر شي بنتحر وخلص!". هي ساقطة لا محالة, لن يضيرها أن تتأمّل بحدوث معجزة وتسكّن روحها بالألحان الموسيقية والغناء. الغناء! ليالي أمضتها تصدح وتغنّي في كاباريهات الحمرا في بيروت وسط إعجاب ما هبّ ودبّ من المصفّقين والإطراءات والنقود المنهمرة على جسدها المتمايل على الأنغام المدويّة .ولكن, آه... عجزت أن تهزّ جسدها لأكثر من دقائق معدودة. اخترقت ذاكرتها صورة شرخ من طفولتها, رائحة الرجل الّذي كان يدخل غرفتها خلسةً ليلاً وهي طفلة لم تبلغ بعد عامها العاشر, يدخل ليطلب منها أو يكرهها على القيام بأمور مشينة في غياب والدها المرمي في السجن ووالدتها المكسورة الجناح الّتي حكم عليها البؤس أن تمضي ليالي خارجاً بحكم عملها كممرّضة, فتقرّر ترك ولديها عند عمّتهما. ذاك الرجل كان زوج عمّتها الأنيق, ذو المكانة الإجتماعية المحترمة والمرموقة, والأخلاق السفيهة. استفاقت من تلك الصورة وكلّ ما رافقها من مأساة, وشعور بالذنب, وعقم نفسي, وتراسبات أخلاقية, وندوب حفرت على روحها العليلة لتواصل الرقص... الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة والوالدة الّتي توفيت على فراش المرض, والوالد الّذي تعفّن في السجن لأنّه سرق القليل من المال من ربّ العمل ليلة العيد. سرق لأنّه لم يهن عليه نظرات الحرمان في أعين أفراد عائلته ومات سجيناً في قهره عليهم. ولكن لا... اللّيلة لا! لا تودّ أن تحمل عذاب والدها المقهور ولا والدتها المناضلة, ولا ذاك الرجل الّذي اغتال جسدها. اللّيلة تودّ الرقص, الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة. الذاكرة الّتي ترفض تحريرها من أصداء كاباريهات الحمرا ونجوميّتها الّتي هوت بين أحضان الرجل الّذي وعدها أن ينتشلها من القذارة, الّذي أخبرها كم يكره الظلم وطلب منها أن تؤمن بعدالة الحياة, وبأنّ الأحزان والمواجع الفائتة قد مضت والآتي أعذب وأحلى أو كما يقال "أعظم". الرجل الّذي أكّد كم أحبّها فلم ترفض أن تقدّم له كلّ ما تملك من عاطفة ومشاعر... وممتلكات... لم ترفض أن تخلع ذاك السوار الذهبيّ الّذي كان آخر ما احتفظت به في معصمها, عندما تحسّر أمامها وراح يشكو لها غدر النصّابين والاستغلاليّين. نظرت إلى معصمها الفارغ من كلّ شيئ سوى حماقتها ولكن لا! ضحكت... اللّيلة تودّ الرقص على أنغام قهقهة صديقتها الوحيدة المقرّبة الّتي ظبطتها بين أحضان حبيبها وبيدها يتلألئ سوارها اليتيم. تلك الصديقة الحقيرة, المصطنعة, المدّعية الّتي صدحت بصوتها على مسرح نجوميّتها الخائبة, المسنّة المستبدلة بوجوه جديدة دائماً. تذكّرت صراخها في الكاباريه والحرّاس يرمونها خارجاً, هي الّتي لطالما أجادت ان تبدو كما يجب, شديدة الثقة بالنفس ترمى خارجاً رمية الكلاب. صمتت الموسيقى, يبدو انّهم قطعوا عنها التيار الكهربائي. فحتّى جسدها المترهل الوحيد لا يحق له الترنم على أنغام الذاكرة المبتورة. عاودت التمدّد في السرير, عاودت النظر إلى بطنها المنتفخ. اللّيلة, تودّ أن تشعر أنّها ليست هي المسؤولة عن فساد الأمّة العربية . مالها ومال الأمم والشعوب؟! جلّ ما تريد هو أن توفي ديونها للحصول على علبة سجائر مجدّداً. اللّيلة, تريد أن تضيف صورة وجبة شهية على أجزاء الذاكرة المركّبة, وجبة لن تنسى طعمها مطوّلاً...

الأحد، 12 أكتوبر 2008

جنازتي


استيقظت اليوم متأخّرة على غير عادتي... نهضت من سريري بسرعة أنادي أمّي, أسألها لمَ لم توقظني؟ لا أحد يجاوب في هذا المنزل الأحمق! هرعت إلى غرفة الجلوس فإذ بها مكتظّة بأشخاص لا أعرف معظمهم. بكاء, نواح وعويل وأجساد متّشحة بالسواد! أصبت بإحباط... لا بدّ أنّ أحدهم قد مات... "ماذا هناك؟ ردّي يا أمّي! من مات؟"
لا أحد يكلّمني كأنّي غير مرئية, لا أحد ينظر إلي... صرخت بغضب, بهلع "ماذا هناك؟"
لا شيء يرتدّ إليّ سوى صوتي... الجميع غارق في الدموع! دأبت أهزّ كلّ الموجودين كأنّني ألامس الهواء. فقدت إحساسي بيدي, ما بالهم!
تناولت واحدة من تلك النعاوي أتأمّلها بهدوء: انتقلت إلى رحمة اللّه تعالى المرحومة.... لا! لا يعقل! ما تلا كلمة المرحومة كان اسمي! اكتشفت أنّ المنية وافتني فجر اليوم ولكن لا بدّ من وجود خطأ في مكان ما فأنا لا اذكر أنّي متّ كما أشعر أنّي حيّة. لا بدّ من خطأ ما!!!
عدت أصرخ, أرتعش, أكاد أجنّ... أخبر أمّي أنّي ما زلت على قيد الحياة! وهي تضرب نفسها. أحاول أن أهدّأ روع أختي الّتي تكاد تنهار وتركض مسرعة إلى غرفتها لحظة إعلانهم عن إحضار جثماني... تنهدت بارتياح, الآن يحضرون الجثمان فيتبين أنّها ليست أنا من توفيت, لا بدّ أنّها أخرى تشبهني أو تحمل نفس اسمي! أدخلوا النعش, وإذ بها فعلاً أنا. انبطحت والدتس فوقه ترثيني, لم أعد أقوى على الاحتمال. نهضت لأتاكّد من الجثة وانهمرت دموعي على وجنتي... كسرت إناءً زجاجياً كان على الطاولة فتبعثر قطعاً صغيرة أمامي من دون أيّة ردة فعل لأحد. الناس يدوسون تلك القطع دون أي إحساس أو شعور.
دخلت إحدى قريباتي بعويلها المفجع وبدأت تخبر قصّة خرافية مفادها أنّها دعتني للغداء في منزلها البارحة "كنت عاملتلا الورق عنب يلي بتحبو!" لا يعقل! هذه السيدة بالذات دجالة فأنا لم اكن على وفاق معها وأنا لا أطيق "الورق عنب". أهزّ أمّي وأقول لها ألاّ تصدّق...ويتّفق الجميع أنّ الورق عنب كان طعامي المفضّل!!! أخدش نفسي, أشدّ شعري, أنا حيّة! يا ربي, ماذا يحدث؟! شخص تلو الآخر يروون حكاياتاهم عنّي, عن علاقاتهم المقرّبة منّي وأنا أنظر بدهشة وأرسم علامات تعجّب... نسيت موتي وعويله وأردت إخراس تلك الأصوات. الكلّ يؤكد أنّه آخر من رآني وأنا بالفعل أمضيت البارحة أعمل للساعة متأحّرة ولم أرَ أحداً. كيف أعلمهم أنّي حيّة؟
لمّا لم يعد بالأمر حيلة وبلغت حدّ اليأس, جلست على إحدى الكراسي في جنازتي وبصراحة مطلقة, شعرت بالغرابة لاستمتاعي بها! كنت محطّ اهتمتا والكل يريد الجلوس في الصفّ الأمامي من أجلي. ضحكت لسماع الأخبار الملفّقة عنّي, ضحكت لسماع أشخاص لم يحبّوني يوماً يتحدّثون عن كم كنت رائعة... لم أتسلّى على هذا النحو من قبل. العثرة الوحيدة كانت عدم مقدرتي على المشاركة!

السبت، 11 أكتوبر 2008

نحن والبحر...



البحر يحوي هموم الكثير من الناس الّذين سئموا محاكاة الحجارة فلجؤوا إليه... نجلس على الشاطئ, نداعب الرمل, نتعرّق تحت الشمس ثمّ تعود لنغتسل به. نشكو له ليلاً عن أحباء هجرونا, وظروف حكمت علينا... نبكي ضعفاء جداً, ولكن لا نخاف أن يستغلّ ضعفنا الّذي نستّره بأقنعة حديدية خوفاً من المزيد من الجراح. فالبحر يحتوي, يبتلع كلّ تلك الكلمات الّتي مزّقت أعماقنا... البحر يشعرنا أنّه يوصل رسائل الشوق والأمل إلى من تخجل أمامهم أن تتحرّر مشاعرنا... ولكن, لحظة نغمض أعيننا ونقرّر رمي أنفسنا بين ذراعيه, يصيبنا البلل ليوقظنا وتتّقد قدرتنا على العوم لنتذكّر أنّ البحر في النهاية صديق جيّد للاستماع ولكنّه رغم براعته, وفقاً لقوانين الطبيعة, يبقى عاجزاً اذا ما غصنا إلى حضنه أن يغمرنا, أن يقتل الشعور الموحش بالوحدة فهو بكل بساطة لا يستطيع التحوّل إلى إنسان.

تأشيرة دخول للجنّة

أخرجت من جيبه تأشيرة دخول للجنّة, بطاقة دفعت ثمنها من عمرها وذاتها, ثروات من هواجس ولعنات مارست على روحها قانون الحجر والموت البطيء. ضربته هي فصدّقت بختم غضبها تأشيرته للدخول, شرّعتها بثبات لتبات أكثر من صالحة. وقّعت له في إحدى لحظات جنونها وانفعالاتها الغير مدروسة. ركض ليثبّت التهمة عليها, شروع بالقتل المتعمّد. لقد أجاد قتلها مراراً دون ترك أيّ أثر خلفه فهو متمرّس... أمّا هي فمبتدئة هوت من أولى جرائمها.
قرّرت مجموعتين من الملائك والشياطين التداول بالأمر فهرع يتضرّع إلى الملائكة ويخربش على اللّوحة الّتي رسمها في مخيّلته وينعت الصورة بأبشع الصفات غافلاً عن أنّه كان هو الرسّام! لم يعر أيّة أهمية للشياطين فهم في النهاية يعجزون عن قيادته لوجهته المحدّدة والمدروسة ومصيرهم الجحيم. لو كان للجنان تذاكر مرور تباع في مكاتب السفريات, لكان أوّل من اشترى ولكن نحن من نصنع جناننا ونحن من نحدّد جحيمنا. فإن كانت هي جسرك للعبور للضفة الأخرى, إن كانت هي حجر الجحيم الّذي ستتعثّر به خلال طريقك الخائب, إن كان عليك أن تدوسها لتخبر ربّك أنّك مواظب على الصلاة, وإن اعتبرت أنّ عبادتها لربّها تمارس من خلالك, فهذا يعني أنّك نوع من الأنبياء النادري الوجود! فهنيئاً لمن يدعون أنفسهم رسل المحبة والخير جنّة يتدافعون لدخولها ويقذفون بالبشر في سائر الجهات ليكونوا السبّاقين في حجز المقاعد الأمامية لما يحسبون من نعيم...

الجمعة، 10 أكتوبر 2008

بالأمس كنت كلمة


بالأمس كنت كلمة
ثائرة, مجنونة, متهوّرة
بالأمس كنت كلمة
منفية...
من البرد غير مدثّرة...
بالأمس كنت حرفين
بين الشفاه موقّرة
وبين كل نفس ونفس تتنشّقين
ألف غصّة غير محرّرة...
كل يومٍ يدعو الغد
والغد يدعو ما بعد غد
ودواليك سلسلة جرائمه المتكرّرة...
استكيني لقدرك يا حوّاء
واتركيها عالقة في الحنجرة
أم تحرّري من كلّ أدوية الالتهابات
لتقولي كلمة "لا" يا امرأة
لن يتضاءل ألمك
ولن ينصفكِ أحد فيما يرى
ولكن تبقى تلك الأحرف
أعذب من أن تتواري تحت الثرى...
لو أدمنتي جميع المسكّنات
وقلتي أنا مسيّرة
لن يرحم يوماً البائع
بضائع ممّا اشترى
سيستّفها...
يكدّسها...
ولن يعتقها من "البهورة"
ولكنّ برادات الجثث
الملقية في صقيع المنطقة
تليق بها تسمية واحدة لا غير
تسمية واحدة هي مقبرة...
وما دمتِ أنتِ تحيين
لتعلّمي أولادك الابتعاد
عن أوراق اليانصيب المزوّرة
كوني لهم مثال
وليس مجرّد بطلة
لإحدى القصص المصوّرة
فإذا ما دعت الحاجة
قوليها ولا تتردّدي
لن تستطيعي الإثمار
وسط صحراء مقفرة
قوليها دون أن تخافي
قولي لا يا امرأة
وإن أدانوكي, لا تأبهي
سيحين لك الوقت
من كان ليصدق
أنّ الأرض فعلاً "مدوّرة"