الجمعة، 17 أكتوبر 2008

على أنغام الذاكرة المبتورة


أخرجت من جيبها محفظة ممزّقة وأخذت تحصي النقود المتبقية لديها. راحت تفكّر وتحسب إن كان باستطاعتها تدليل نفسها بشراء وجبة دسمة كتلك الّتي تراها في الإعلانات على التلفاز. باءت مهاراتها في المحاسبة بالفشل, فما زال عليها أن تدفع للبقّال حسابه وإيجار ثلاثة أشهر لصاحبة المنزل الغاضبة, عدا عن فواتير الكهرباء والمياه الّتي يهدّدون بقطعها عن شقّتها. كما أنّها تحتاج لبطانية سميكة فالشتاء على الأبواب والبرد بدأ يلسع جسدها تحت ذاك المعطف "المهلهل" والحذاء الممزّق. حدّثت نفسها قائلة "تبهدلتي كتير يا منى!". لمعت عينيها وهي تنظر إلى ذاك المطعم الفخم ورائحة الأكل الشهي تخترق حواسها "يلاّ وإسّا حتتبهدلي أكتر", إسترسلت تحدّث نفسها. لم تعد تشعر لا بيديها ولا قدميها, اقتادها جسدها صوب تلك الرائحة الدافئة اللّذيذة لتنفق آخر ما تملك من نقود على ماعدتها الفارغة منذ مدّة سوى من فتات خبز وزيتون, هذا إذا ما استطاعت الحصول على الزيتون. أخفت الكيس الّذي حوى طعامها تحت معطفها خوفاً من أعين أهل الحيّ الّذين ينتظرون أن توفيهم ديونها المتراكمة. أخرجت المفتاح ودخلت شقّتها كاللّصة. أسندت ظهرها على الباب وتنهّدت بارتياح. فتحت كنزها الدفين وأخذت تلتهم تلك الوجبة بيديها وفمها وحواسها كافّة بشراهة ونهم وجوع. أنهت طعامها. تمدّدت في سريرها وبدأت تتحسّس بطنها المنتفخ برضى وابتسامات وسرور. أخرجت محفظتها مجدّداً. بدأت تقلّبها ثم ألقتها جانباً بعصبية. لم تود إفساد شعورها بالشبع بالقلق المضني. لا, ليس اللّيلة فروحها غير قادرة على الاحتمال. اللّيلة, لا تودّ التفكير بالإيجار المتراكم ولا الألم المقبل. لا تودّ تحميل نفسها مسؤولية فساد الأمّة العربيّة. من يصدّق أنّها تفعل ذلك أحياناً! إكتفت! فقدت الرغبة بإنقاذ البشرية. سئمت الشعور بالذنب وتحميل ذاتها وزر خطايا المجتمع فمن يفكّر فيها وهي ملقاة بين أحضان الجوع والبرد وعلى شفير الإنهيار.على الأقلّ, اللّيلة لن تنام جائعة! هذا سبب كافي حالياً للاحتفال. داعبت وجهها محاولة إقناع نفسها أن تطرد الهواجس "أكتر شي بنتحر وخلص!". هي ساقطة لا محالة, لن يضيرها أن تتأمّل بحدوث معجزة وتسكّن روحها بالألحان الموسيقية والغناء. الغناء! ليالي أمضتها تصدح وتغنّي في كاباريهات الحمرا في بيروت وسط إعجاب ما هبّ ودبّ من المصفّقين والإطراءات والنقود المنهمرة على جسدها المتمايل على الأنغام المدويّة .ولكن, آه... عجزت أن تهزّ جسدها لأكثر من دقائق معدودة. اخترقت ذاكرتها صورة شرخ من طفولتها, رائحة الرجل الّذي كان يدخل غرفتها خلسةً ليلاً وهي طفلة لم تبلغ بعد عامها العاشر, يدخل ليطلب منها أو يكرهها على القيام بأمور مشينة في غياب والدها المرمي في السجن ووالدتها المكسورة الجناح الّتي حكم عليها البؤس أن تمضي ليالي خارجاً بحكم عملها كممرّضة, فتقرّر ترك ولديها عند عمّتهما. ذاك الرجل كان زوج عمّتها الأنيق, ذو المكانة الإجتماعية المحترمة والمرموقة, والأخلاق السفيهة. استفاقت من تلك الصورة وكلّ ما رافقها من مأساة, وشعور بالذنب, وعقم نفسي, وتراسبات أخلاقية, وندوب حفرت على روحها العليلة لتواصل الرقص... الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة والوالدة الّتي توفيت على فراش المرض, والوالد الّذي تعفّن في السجن لأنّه سرق القليل من المال من ربّ العمل ليلة العيد. سرق لأنّه لم يهن عليه نظرات الحرمان في أعين أفراد عائلته ومات سجيناً في قهره عليهم. ولكن لا... اللّيلة لا! لا تودّ أن تحمل عذاب والدها المقهور ولا والدتها المناضلة, ولا ذاك الرجل الّذي اغتال جسدها. اللّيلة تودّ الرقص, الرقص على أنغام الذاكرة المبتورة. الذاكرة الّتي ترفض تحريرها من أصداء كاباريهات الحمرا ونجوميّتها الّتي هوت بين أحضان الرجل الّذي وعدها أن ينتشلها من القذارة, الّذي أخبرها كم يكره الظلم وطلب منها أن تؤمن بعدالة الحياة, وبأنّ الأحزان والمواجع الفائتة قد مضت والآتي أعذب وأحلى أو كما يقال "أعظم". الرجل الّذي أكّد كم أحبّها فلم ترفض أن تقدّم له كلّ ما تملك من عاطفة ومشاعر... وممتلكات... لم ترفض أن تخلع ذاك السوار الذهبيّ الّذي كان آخر ما احتفظت به في معصمها, عندما تحسّر أمامها وراح يشكو لها غدر النصّابين والاستغلاليّين. نظرت إلى معصمها الفارغ من كلّ شيئ سوى حماقتها ولكن لا! ضحكت... اللّيلة تودّ الرقص على أنغام قهقهة صديقتها الوحيدة المقرّبة الّتي ظبطتها بين أحضان حبيبها وبيدها يتلألئ سوارها اليتيم. تلك الصديقة الحقيرة, المصطنعة, المدّعية الّتي صدحت بصوتها على مسرح نجوميّتها الخائبة, المسنّة المستبدلة بوجوه جديدة دائماً. تذكّرت صراخها في الكاباريه والحرّاس يرمونها خارجاً, هي الّتي لطالما أجادت ان تبدو كما يجب, شديدة الثقة بالنفس ترمى خارجاً رمية الكلاب. صمتت الموسيقى, يبدو انّهم قطعوا عنها التيار الكهربائي. فحتّى جسدها المترهل الوحيد لا يحق له الترنم على أنغام الذاكرة المبتورة. عاودت التمدّد في السرير, عاودت النظر إلى بطنها المنتفخ. اللّيلة, تودّ أن تشعر أنّها ليست هي المسؤولة عن فساد الأمّة العربية . مالها ومال الأمم والشعوب؟! جلّ ما تريد هو أن توفي ديونها للحصول على علبة سجائر مجدّداً. اللّيلة, تريد أن تضيف صورة وجبة شهية على أجزاء الذاكرة المركّبة, وجبة لن تنسى طعمها مطوّلاً...

3 تعليقات:

في 30 سبتمبر 2009 في 8:58 ص , Anonymous الإعلامى/ عاطف الهادى يقول...

فساد الأُمة وخطايا المُجتمع ، حتماً لامحالة تقود هذة المسكينة إلى قهر نفسها وعربدةِ جسدها ، ولم ترحمها الخطيئة وهى فى العاشرة من عُمرها من براثن الوحش الكاسر الذى يقطن داخل الجُدران ، فيُذيقُها همجيةِ مُعاشرتِها ، ويسقيها السُم من كوب العسل .
ليتَ الخطيئة يوما تشعُر بما أخطئت ، فتخُرُ نادِمةً على ما فعلت .
شُكراً جنى على هذا الإمتاع المُتواصل ...

 
في 2 يناير 2010 في 10:51 م , Anonymous غير معرف يقول...

نفس المواضيع جنس وبيع جسد ودعارة والله يستحي الرجل من هكذا مواضيع وضيعة وانت تمعنين في التفكير بذللك استعجب من اين لبنت في مثل عمرك ان تعرف هذه الامور عن الدعارة وتكتب عنها !!والاغرب من بعض المعلقين الذين يدعون انهم مثقفين ويشجعونك بس مش الحق عليكي لو اهلك عرفو يربوكي ما وصلت لهذا لمستوى في الكتابة بدل ما تستخدمي قدراتك في الكتابة النظيفة رحتي الى الكتابة الرخيصة عن العاهرات وبائعات الجسد والشرف للاسف شيء محزن

 
في 8 يناير 2010 في 1:15 م , Anonymous الإعلامى / عاطف الهادى يقول...

أديبتى جنى

كانَ يغلبُنى ظنى ..
أنى بعيداً ذهبتُ ..
وكُلما أوغلتُ بُعداً..
أزيدُ هُياماً وعِشقاً ..
وتسرى فى جسدى رعشة ..
ويهتزُ كيانى ..
ويهُزُنى فى لحظة..
ألا تذكُرُ ؟
تِلكَ الهزة ..
وتِلكَ الرعشة ..
أفيقُ مِن سكرتى ..
أجِدُ نفسى ..
مازلتُ ..
داخِل أسوارُكِ ..
ما قولُكِ ..
يا أديبتى ؟

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية