الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

صراصير محنّطة



المشهد الأول : باريس – شتاء 1986
المطر مغري... رائحة الهواء البارد يداعب أنفها الصغير ويتداخل في رئتيها ليعيد ضخّ الحياة...
المطر مغري... تخلع عنها المعطف الأسود الكشمير وتلقيه على الكنبة...
المطر مغري... تفكّ شعرها المجدول وتنفضه لينهدل...
المطر مغري جداً! تتوجّه نحو الباب... تفتحه بهدوء... الساعة الحادية عشر والظلام الدامس في الخارج لا يرعبها. تمدّ يدها لإحضار كرسي ثمّ تتراجع... لا تحتاج واحداً. تجلس على الأرض المبللة وسط الشرفة الخارجية الواسعة والمطر ينهمر بشدة على شعرها, وجهها وجسدها وهي لا تشعر بالبرد. العواصف تهدّد الأشجار وتكسّر الأغصان. السماء ترتعد برقاً ورعداً وهي لا تشعر بالرهبة. تغمض عينيها وتستمتع بالسكينة وتتلذّذ بكل زخّة مطر.
يأتي هو الساعة الواحدة بعد منتصف اللّيل... يتأبّط تحت ذراعه كتاباً للعملاق نزار فبّاني, ويمسك بيده مظلّة تحميه من المطر. يراها... يشعر بالغضب, يسألها بعنف "لماذا أنت هكذا؟! مجنونة..." يأخذ بيدها ويقودها إلى الداخل. يخلع معطفه الطويل ويغطيها به. يحضر منشفة, يمرّرها على وجهها وشعرها. يبدأ بتحسّس وجهها, تغمض عينيها, تبادله بالمثل, تتحسّس عينيه, أنفه, وجنتيه, شفتيه... يغمراها بحنان. تلقي برأسها على كتفه وتنتعش روحها لمرور المطر وشعوره في ذاكرتها.
تجلس قرب المدفأة, تتأمّل وهج النار المتّقدة... يدخل ليحضّر القهوة... تضع اسطوانة لماجدة الرومي "كلٌّ يغنّي على ليلاه وأنا على ليلي أغنّي, غنّيلك آه يا بلدنا آه علّي سرقوا أرضك منّي..." يأتي بالقهوة. يرتشفانها بصمت. عادت الحرارة إلى جسدها, جفّ شعرها والموسيقى مستمرّة. يتأمّلها. تنظر اليه بعينيها الغارقة في الأحزان. تقترب من كرسيه. تجثو على الأرض وتلقي برأسها على حضنه. يداعب شعرها. تبدأ بالكلام "سئمت المنفى... أريد بلدي..." تغنّي يا بيروت, يا ست الدنيا يا بيروت... تسترسل بالكلام الغير واضح "أعشق المطر... أشتاق إلى تراب بلادي... آمنت بعدلك يا رب... أحبّ قربك منّي, شعوري باندماجك داخلي... لا أشعر بالجوع... قد أستطيع إدمان القهوة..."
تسكت. يبدأ بقراءة شعر نزار في الكتاب الّذي جلبه بصوته الغريب, نبرته المحبّبة على قلبها:
مدينتنا...
تطلّ أثيرة عندي
برغم جميع ما فيها...
أحب نداء باعتها
أزقّتها
أغانيها
مآذنها... كنائسها
مدينتنا راضية بمن فيها...
بآلاف من الأموات
تعلكهم مقاهيها...
لقد صاروا مع الأيام,
جزءً من كراسيها
صراصير محنّطة
خيوط الشمس تعميها...
تضحك لعبارة صراصير محنّطة... تضحك ملئ قلبها... تعانقه وتقبّل وجنتيه مقهقهة. تركض إلى الداخل. تحضر عصابة سوداء وتضعها على عينيه. تسكب كأسين من النبيذ الأحمر. ترتشف القليل من كأسه وتسقيه من كأسها. تجلس قبالته. تمسك بيده وتشدّ عليها. تقبّل كفّه, وتبدأ بالقراءة هي الآن, خواطر دوّنته لو وحده, وليس لأحد سواه.
أنت مدينتي
تخفّف وثيرة صقيع المنفى
تحملني للأضواء الوردية
للّيل المقدّس المخضلّ
لذلك الأمل الشحيح المنسكب
وسط الضجر الشاحب والملل الكئيب
لك تهمس النجمات
وتثور الأمواج
وتستكين الأوقات
فتمضي الساعات في وجودك لحظات
وتمضي اللّحظات في بعدك ساعات

تزيل العصابة عن عينيه. تبتسم. تضع اسطوانة أخرى لكوكب الشرق هذه المرّة, ترنّم "خليني جنبك خلّيني, في حضن حبّك, وسيبني أحلم سيبني..."
يمضي اللّيل وهي بين أحضانه وأحضان الخمرة المعتّقة من كروم بلادها...
لوهلة, تنسى المنفى... تنسى الحرب... تنسى الدمار... وتهمس في أذنه :"آمنت بك يا وطني!"

4 تعليقات:

في 10 يناير 2010 في 4:48 ص , Anonymous الإعلامى / عاطف الهادى يقول...

لا أعرِفث لِماذا هُنا أجِدُ نفسى ؟
هل هىَ خِلوتى ؟
أم أنى فيها أختلىَ ؟
أَكَّرَمٌ مِنكِ أن تستضيفينى ؟
أم هوَ نبعُكِ ذو المفيضِ ؟
نهلتُ مِنكِ الكَثيرِ ..
وعلى تراتيلِ خريرِكِ ..
رويتُ ظَمَأِى وما يُشفينى ..
وهوَ ما ليسَ يكفينى ..
فمُنى عُمرى أن أُلبيكى ..
فيما يُرضيكى ..
ويزيدُ مِن نبعِكِ المزيدِ ..
بما تشتَهِِةِ ويفيضِ ..

_____________________
جِنُون فى دَربِ الجَنىَ !
_____________________

أديبتى جنى

ما بين الوطن والغُربةِ جنون ..
وبينَ العِشقِ والكُرةِ جنون ..
وبينَ الشهوةِ والنزوةِ جنون ..
وبين الرجالِ جنون ..
والنِساءِ جنون ..

ما بينَ الصيفِ والشِتاءِ جنون ..
وبينَ الخريفِ والربيعِ جنون ..
وبينَ السِكونِ والحركةِ جنون ..
وبينَ الأيامِ جنون ..
والليالى جنون ..

وما بينَ الفرنسى والعربى جنون ..
و بينَ الحياةِ والموتِ جنون ..
و بينَ الخمرةِ المُعتّقةِ ومزيجِ العِشقِ جنون ..
وبينَ نبضِ الأرواحِ جنون..
ورعشةً تسرى جنون ..

وأُسائِلَ نفسى ..
أن أجيبى ..
وبِلُغةِ الهمسِ لا مُجيبِ ..
وما بينَ نفسى وهمسى ..
صارَ جنونُ ..
فعرفتُ أنى ..
فعرفتُ أنى ..
لنفسى وهمسى ..
مجنونٌ ..
فى دربِ الجَنىَ ..

 
في 6 مارس 2010 في 1:41 م , Anonymous الإعلامى / عاطف الهادى يقول...

أديبتى جنى
ماذا ينبغى أن أفهم ، بعد حذف تعليقى ؟
هل هكذا يُطرد من عَشِقَ أبواب قصرُكِ ؟
سلامٌ عليكِ ، وشُكراً لكٍ ..

 
في 8 مارس 2010 في 1:09 ص , Blogger Jana El Hassan يقول...

مين حذفلك تعليقك؟

 
في 8 مارس 2010 في 3:27 م , Anonymous الإعلامى/عاطف الهادى يقول...

أديبتى جنى
أشكُر لكِ إهتِمامِك ، بِعلامة إستِفهامِك ،وأُعيدُ عليكِ نشرَ محذوفى ..

في 10 يناير, 2010 04:48 ص , Anonymous الإعلامى / عاطف الهادى يقول...

لا أعرِفث لِماذا هُنا أجِدُ نفسى ؟
هل هىَ خِلوتى ؟
أم أنى فيها أختلىَ ؟
أَكَّرَمٌ مِنكِ أن تستضيفينى ؟
أم هوَ نبعُكِ ذو المفيضِ ؟
نهلتُ مِنكِ الكَثيرِ ..
وعلى تراتيلِ خريرِكِ ..
رويتُ ظَمَأِى وما يُشفينى ..
وهوَ ما ليسَ يكفينى ..
فمُنى عُمرى أن أُلبيكى ..
فيما يُرضيكى ..
ويزيدُ مِن نبعِكِ المزيدِ ..
بما تشتَهِِةِ ويفيضِ ..

_____________________
جِنُون فى دَربِ الجَنىَ !
_____________________

أديبتى جنى

ما بين الوطن والغُربةِ جنون ..
وبينَ العِشقِ والكُرةِ جنون ..
وبينَ الشهوةِ والنزوةِ جنون ..
وبين الرجالِ جنون ..
والنِساءِ جنون ..

ما بينَ الصيفِ والشِتاءِ جنون ..
وبينَ الخريفِ والربيعِ جنون ..
وبينَ السِكونِ والحركةِ جنون ..
وبينَ الأيامِ جنون ..
والليالى جنون ..

وما بينَ الفرنسى والعربى جنون ..
و بينَ الحياةِ والموتِ جنون ..
و بينَ الخمرةِ المُعتّقةِ ومزيجِ العِشقِ جنون ..
وبينَ نبضِ الأرواحِ جنون..
ورعشةً تسرى جنون ..

وأُسائِلَ نفسى ..
أن أجيبى ..
وبِلُغةِ الهمسِ لا مُجيبِ ..
وما بينَ نفسى وهمسى ..
صارَ جنونُ ..
فعرفتُ أنى ..
فعرفتُ أنى ..
لنفسى وهمسى ..
مجنونٌ ..
فى دربِ الجَنىَ ..

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية